يتعامل رؤساء التحرير، ومن يمثلونهم في هيئة التحرير، مع رسامي الكاريكاتير بطريقة سيئة. إنهم يستخدمون الكاريكاتير كمادة مكملة لما ينشرونه فقط.
تزداد أهمية فن الكاريكاتير خلال الحروب انطلاقاً من تأثيره في ظل تراجع دور الصورة الفوتوغرافية والتلفزيونية، مع ما تختزله لوحة الكاريكاتير من معانٍ ودلالات تتجاوز ما تحمله مئات الصور والمقالات… وهو ما يفسر حرص الناس بمتابعة هذه الأعمال خلال الحرب، كما هي الحال في اليمن، لكن هذا الاهتمام، كما يقول فنان الكاريكاتير الشاب رشاد السامعي، «يُضاعف من المخاطر التي قد يتعرض لها هذا الفنان».
ولهذا فإن الحرب هناك، التي زادت من اهتمام الناس بهذا الفن، هي نفسها غيبت عدداً منهم، ولعل منهم مَن اختاروا الغياب بأنفسهم انطلاقاً من رفضهم للخيارات المحدودة التي تتيحها ظروف الصراع غالباً بين العمل لخدمة الطرف الذي يسيطر على المنطقة التي يعيش فيها الفنان أو العمل معه مجبراً تحت ضغط الحاجة المالية… ولهذا نجد معظم مَن يعمل حالياً من هؤلاء الفنانين في اليمن، منقسمين بين أطراف النزاع، يسخرون أعمالهم لانتقاد الطرف المناوئ، لكن منهم مَن ينتقد كل الأطراف، وهذا لابد له أن يكون في منطقة توفر له السلامة من الجميع.. فيما غالبية الفنانين غائبة.
وعلى الرغم من كل ذلك فقد ضاعفت الحرب من معاناة فناني الكاريكاتير اليمنيين (عددهم محدود جداً) سواء على مستوى الشتات أو الغياب، مقابل ما تبقى من حضور لهم، الذي هو في غالبه يخدم الحرب. وقبل ذلك وبعده؛ فإن اهتمام الناس بمتابعة هذا الفن لا يضيف شيئاً له؛ لأن توظيفه حربي ومؤقت في غالبه؛ وبالتالي فإن التأثير السلبي للحرب على هذا الفن سيضاعف من أزمته الممتدة إلى ما بعد الحرب الأهلية في صيف 1994.
ما يطلبه رئيس التحرير
وكما سبقت الإشارة فإن معاناة فن الكاريكاتير في اليمن ليست صنيعة هذه الحرب، بل امتدادا لما أفرزته حرب 1994… إذ كرس واقع ما بعد تلك الحرب وعياً إعلامياً محلياً قاصراً بدور وأهمية وخصوصية هذا الفن، بالتوازي مع تراجع حريات التعبير عما كانت عليه قبل تلك الحرب، وتحديداً في السنوات الأولى من عمر دولة الوحدة؛ ليعود هذا الفن إلى ما كان عليه قبلها في عهد التشطير إن جاز الحكم؛ ولهذا نجد أن الكاريكاتير اليمني، على الرغم من تاريخه الممتد إلى ستينيات القرن الماضي، لم يسجل حضوراً تكرست من خلاله أهميته إعلامياً، بدليل ما عانته «رابطة فناني الكاريكاتير اليمنيين»، التي أُعلن عن تشكيلها عام 2014، وتعرضت لمشاكل بين وزارتي الإعلام والثقافة على مستوى منحها الترخيص، حيث كان كل من الوزارتين ترمي بمسؤولية الترخيص للأخرى…في إشارة إلى ما يعانيه هذا الفن (تنظيمياً) بدءاً بعلاقته غير المعترف بها في الإدارتين الثقافية والإعلامية، وانتهاءً بتأرجحه بين النقابتين الصحافية والفنية، وحتى على مستوى علاقته بالصحف والمجلات قبل الحرب الراهنة، إذ كان يخضع للاستغلال، وبقي يخضع للاستغلال ذاته (مع تغيير طفيف) في علاقته بالصحافة الإلكترونية؛ فالفنان يرسم للموقع الإلكتروني بما يتفق وسياسة الموقع، بينما كان قبل الحرب يرسم للصحف، غالباً، وفقاً لفكرة يضعها رئيس التحرير مسبقاً للفنان الذي يترجمها في لوحة، أما الأجر فهزيل جداً… كل ذلك دفع بمعظم الفنانين للتوقف والعزوف.
«يتعامل رؤساء التحرير، ومن يمثلونهم في هيئة التحرير، مع رسامي الكاريكاتير بطريقة سيئة. إنهم يستخدمون الكاريكاتير كمادة مكملة لما ينشرونه فقط. يتعاملون مع الفنان باعتباره موظفاً ينفذ ما يُطلب منه، بل إنهم يتجرؤون على تعديل الفكرة، بدون الرجوع للفنان، كما أنهم يهضمون حقه الأدبي والفكري، ويتفضلون عليه بالفُتات، أما سقف الحرية فمنخفض جداً في الصحف الحكومية تحديداً، وفي الصحف الحزبية أيضا وغيرها» يقول الفنان رشاد السامعي متحدثاً لـ «القدس العربي».
ويعود الفنان عدنان جُمن، وهو من أقدم فناني الكاريكاتير في اليمن، بتاريخ هذا الفن في بلاده إلى الفنان عبدالمجيد عراسي، معتبراً إياه أول مَن اشتغل على هذا الفن هناك عام 1963، من خلال عمله حينها في صحيفة «فتاة الجزيرة» في عدن. ويقول جُمن، إن تلك التجربة مثلت البدايات الأولى التي تواترت من خلالها تجارب يمنية أخرى حتى وقتنا الحاضر. ولعل تجربة جُمن تختزل معاناة فناني الكاريكاتير في بلاده؛ فبعد تجربة طويلة وعريقة برز من خلالها من أهم الفنانين في بلاده فقد اضطر، هذا الفنان، إلى ترك هذا المجال؛ لأنه لم يستطع معه أن يعيش مع استمرار ما وصفه بالاستغلال والاستعلاء في تعامل الصُحف مع رسام الكاريكاتير، على حد تعبيره.
الكاريكاتير بين حربين
رسامو الكاريكاتير الشباب في اليمن حالياً هُم مَن يختزلون راهن هذه التجربة هناك، لاسيما بعد توقف أو وفاة كبار الرسامين الرواد… وهو العزوف الذي يمتد إلى ما قبل الحرب الراهنة بسنوات توقف فيها أبرزهم؛ كالفنان البارز محمد الشيباني والفنان جُمن فيما توفي عارف البدوي وعبدالله المجاهد (أبوسهيل) وغاب بعض من جيل الوسط، إن صح التجييل، كالحمزي والمسوري، وغيرهم ممن اضطرتهم الأحوال المضطربة في البلاد وتدهور علاقة الصُحف بهذا الفن إلى الانكفاء والغياب.
حرب صيف 94
وكان فن الكاريكاتير اليمني قد شهد نقلة نوعية ضمن ما شهدته الصحافة المحلية من تطور خلال المرحلة الانتقالية التي أعقبت إعلان توحيد اليمن عام 1990؛ وهي المرحلة التي استمرت زهاء أربع سنوات تقريباً، وأسهمت التعددية السياسية التي رافقت إعلان دولة الوحدة في توسيع مساحة الحريات؛ وهو ما شهدت معه الصحافة تطوراً لافتاً ظهر واضحاً في (المقال وفن الكاريكاتير)، وبرز الأخير فاعلاً ومؤثراً حينها في الأزمة السياسية، وتطورت تقنياته وأدواته واسماؤه وتناولاته الموضوعية.
عقب حرب صيف 1994 أو ما تُعرف بحرب الانفصال، التي أفضت إلى انتصار قوات علي عبدالله صالح، وبالتالي انفراد تحالفه القبلي العسكري التقليدي بالسلطة، إلى فرض واقع جديد تحت تأثير زهو الانتصار، وهو واقع تراجعت فيه الحريات، وتأثرت الصحافة كثيراً، وكان من أبرز ملامح ذلك التأثر تراجع حرية الرأي والصحافة وانحسار حضور فن الكاريكاتير في الصُحف والمجلات، التي أصبح تعاطيها مع هذا الفن ثانوياً؛ وبهذا تأثر الفنان، ومع هذا التأثير اختفى عددٌ منهم على امتداد سنوات ما بعد تلك الحرب، لكن اللافت خلال تلك المرحلة التي ساد فيها فنانو الجيل الأول وجيل الوسط، كان ظهور عدد من أسماء الفنانين الشباب؛ وهو الظهور الذي تكرس بوضوح مع نهاية عقد التسعينيات وبداية الألفية الثالثة؛ لكن على الرغم من الطفرة المتواترة في هذه الأسماء كانت المعاناة تتسع ومعها كانت تلك الأسماء ما أن تظهر حتى تختفي أو تتراجع، إلى أن استطاع عدد منهم الإعلان عن إنشاء رابطة فناني الكاريكاتير اليمنيين ومعهم فنانو الكوميكس؛ وهو أول كيان لهؤلاء هناك.
الحرب الراهنة
اندلعت الحرب الراهنة عقب شهور من إعلان تأسيس تلك الرابطة؛ وبالتالي توقف نشاطها، ومعها توقف نشاط معظم فناني الكاريكاتير، حيث ضاعفت الحرب من معاناة واقع هؤلاء الفنانين؛ وهي المعاناة التي أفرزتها – أولاً – حرب 1994، وكرستها الحرب المستعرة حالياً منذ عام 2015. ويمكن القول إن عدد من كان ينشر من فناني الكاريكاتير هناك لا يتجاوز 15 فناناً، بينما لم يبق منهم مستمراً في النشر، حالياً، سوى بضعة أسماء، معظمهم ينشرون على مواقع الإعلام الإلكتروني لأطراف الحرب، وبعضهم اكتفى بصفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
لم يكن يهمني أي طرف أو جماعة أو حزب. كان يهمني المواطن اليمني البسيط. وكنتُ في صفه حتى في الرسوم التي انتقده فيها.
ومن بين مَن التزم موقفاً ناقداً لجميع أطراف النزاع يبرز الفنان رشاد السامعي الذي اشتهر قبل الحرب بأعماله القريبة من أحوال الناس الاجتماعية، من خلال أفكاره القريبة من الهموم العامة، وخطوطه المثقلة بالتعب والحزن… وهي الأعمال التي تحقق رواجاً، وصارت تنشر في أكثر من منصة. مرت بدايات رشاد بعددٍ من المحطات، منها: عندما بدأ في تقديم رسوم سياسية ينتقد فيها أمريكا وحلفاءها خلال حرب الخليج الثانية، حينها لم يكن يفهم من السياسة «إلا ما أسمع الناس يتحدثون عنه». وفي حرب صيف 1994 في اليمن بدأ النشر في صحيفة «الجمهورية» الحكومية في مدينة تعز/ جنوب غرب، و«كنت أرسم، أيضاً، ما أسمعه من الناس، ووضعت أولى رسوماتي في صندوق القراء. ولم أصدق عندما نشرت الصحيفة الرسم في صفحة القراء». التزم رشاد منذ تلك البدايات البقاء قريباً من معاناة الناس إلى أن اندلعت الحرب الراهنة؛ فكان لابد له أن يقترب من السياسة مع الواقع الجديد الذي تغيرت فيه الاهتمامات واتسعت المعاناة؛ وبالتالي كان من غير المنطقي أن «أبقى أعمل على قضايا اجتماعية وثقافية أو أي قضايا لا ترقى للحدث السياسي»، ويوضح، «لم يكن يهمني أي طرف أو جماعة أو حزب. كان يهمني المواطن اليمني البسيط. وكنتُ في صفه حتى في الرسوم التي انتقده فيها. وقد أعطاني عدم الانتماء لأي طرف، مساحة أوسع للتعبير؛ فانتقد مَن أريد وقت ما أريد، لكن ليس في الصُحف طبعاً، إلا بنسبة ضئيلة» ويضيف «واجهتُ مشاكل مع رؤساء التحرير بسبب عدم خضوعي للإملاءات».
وينتقد رشاد ما صار إليه وضع فن الكاريكاتير في بلاده «فقد تأثر كثيراً بالتوجهات الحزبية، وتحول في فترة من الفترات إلى وسيلة للتراشق الحزبي والسياسي؛ وهذا أثر حتى على علاقة الفنانين ببعضهم… وربما أهم مشكلة يواجهها فنانو الكاريكاتير خلال الحرب الراهنة هي خضوع بعض الرسامين للإملاءات، إما بدافع حزبي أو حفاظاً على لقمة العيش»، وقد أدى هذا الواقع إلى «عزوف بعض الرسامين عن هذا الفن وتوقفوا نهائياً واتجهوا للعمل في مجالات أخرى، وهؤلاء إلى حد ما معذورون بسبب الاستغلال الذي يتعرضون له من وسائل الإعلام، بما معناه أن الحرب أثرت كثيراً على هذا الفن».
نقلا عن القدس العربي