2018: عام تقليم الكتب والمكتبات
“بيت الألواح” هذا لم يعد “مكتبة”، بمعنى أنه لم يبق مقيّداً بمكان كما في السابق، بل أصبح بيتاً مترحّلاً، بدويَّ السمات والغايات، ينتجع جيوبَ مستهلكين للكتاب في هذه العاصمة أو تلك، ويرِدُ موارد هذه الوزارة العربية أو تلك، بحجّة “التعاون” تارةً، وبحجة “نشر الثقافة” تارة أخرى. أصبح البيتُ معرَضاً إذاً، أو معارض.
يمن مونيتور / العربي الجديد
لأن المكتبة، أو “بيت الألواح” كما كانت تُسمّى في حضارات عربية قديمة أشهرها البابلية والآشورية، أو “بيت الحكمة” كما أصبحت تُسمّى في عصورنا الأحدث، هي حاوية الكتاب والكتابة وكل ما يتعلّق بها، يرى الكثير من المفكّرين أنها الأكثر دلالةً على طبيعة الزمان والمكان، بمعنى أن مصائرها؛ ما تتعرّض له من ازدهار أو انحطاط، وتقلُّب نحو هذا الاتجاه أو ذاك، مؤشّر على حالة مجتمع، أو أمّة إذا أردنا التوسُّع، في هذه الحقبة التاريخية أو تلك. لهذا وقع الاختيار ليكون “بيت ألواح” هذا الزمن العربي، ونحن نودّع 2018 ونستقبل عاماً جديداً، موضعاً للتأمّل.
“بيت الألواح” هذا لم يعد “مكتبة”، بمعنى أنه لم يبق مقيّداً بمكان كما في السابق، بل أصبح بيتاً مترحّلاً، بدويَّ السمات والغايات، ينتجع جيوبَ مستهلكين للكتاب في هذه العاصمة أو تلك، ويرِدُ موارد هذه الوزارة العربية أو تلك، بحجّة “التعاون” تارةً، وبحجة “نشر الثقافة” تارة أخرى. أصبح البيتُ معرَضاً إذاً، أو معارض.
اللافتُ للنظر أن العام المنصرم اكتظّ بمعارض تزاحمت مع تضارب المواعيد واضطرار الناشرين إلى توزيع “مكتباتهم” على أكثر من مكان في وقتٍ واحد، بلغ عددُها أربعة عشر معرضاً للكتاب تقريباً. واللافت للنظر، أيضاً، أنّ هذه المعارض تتّخذ أسماء لها من هذا البلد العربي أو ذاك، ولكن مع محو صفة “عربي” من الاسم، ووضع صفة “دولي” بدلاً منها، أو محواً لها في الحقيقة. وهذه أول دلالة ذات معنى على أيّ أفق يتّجه نحوه بيتُ ألواحٍ خرج مترحّلاً بين ما سينكشف على أنه جزرٌ لا برّ أرضٍ رئيسية أو وطن واحد.
تصدّر الناشرون المشهد وانحسر دور الكتّاب والمفكرين
هذا الترحال الشبيه بترحال بين جزر، لم يأت بشكل عفوي، بل قرّره واقعُ حالٍ وقع فيه “بيت الألواح” في وضعية تُشبه وضعية شجرة “البونساي” التي أجادت التقانة اليابانية، على آثار التقانة الصينية، صناعتها؛ تقانةٌ تقوم على تقليم وتشذيب شجرة تحمل إمكانية أن تُصبح شامخةً في المستقبل، وتحويلها إلى شجرة صغيرة تشبه الأصلية في كل شيء، حتى بإثمارها، إلّا أنها قزم صغير يقبع في إناء ساكن في زاوية من زوايا غرفة أو دكّان.
وكما هو معروف عن تصنيع هذه الشجرة التي لا تعود تصلح لغير الزينة، أن صنّاعها يعملون بخطوات محسوبة، فيربطون الجذع والأغصان بالأسلاك، ويقلّمون الجذور أيضاً، منعاً للنموّ والامتداد الطبيعي اللذين هما من طبيعتها التي خُلقت بها ولها؛ أي أنهم يعملون على مصادرة مستقبلها، واصطناع مستقبل بديل لها. ومن هنا يُقال إنَّ هذه العملية مؤلمة بالنسبة إلى الشجرة المسكينة التي لا تفقد مستقبلها فحسب، بل وتفقد معنى وجودها ذاته المؤصّل في صحائف الخلق.
في حالة المعارض العربية، التي نسيت أنها عربية أوّلاً وتحوّلت إلى “دولية”، لتقليمها وتشذيبها وربط أطرافها وتقييد آفاقها وظيفة مشابهة لما لـ”البونساي” اليابانية وغاية لا تبتعد كثيراً عن الغاية من هذه الأخيرة، مع إضافة وظيفة أو غاية أخرى؛ فمعارض من هذا النوع الذي وصفنا، تنعكس مفاعيل ما يُنتج عنها على عقول الناس، من يقرأ ومن يرتاد هذه المعارض للمتعة أو بحثاً عن فرصة ما، فهي تتعرّض للتقليم أيضاً، للربط والتقييد ومصادرة مستقبلها حين تُمنع من النمو والامتداد المخلوقة لهما، لأن تقييد الكتاب أو منعه ومصادرته مساهمة مباشرة في تقييد العقل ومنعه من النمو ومصادرته، وأخيراً تحويله إلى نوع من “بونساي” لا تصلح إلّا للزينة.
تفسير هذا أن ما يُرافق هذه المعارض من أنشطة ثقافية، وما يحمله من مطبوعات، وما يسعى إليه منظّموه ومن يفد إليه، سواء كان ناشراً أو متجوّلاً أو عابراً، بدأت تنحسر عنه عدّة صفات أكثرها أهميةً الأفق القومي ومشاغله. ومضى الأمر ببعض “المكتبات” المترحّلة إلى “التأقلم”؛ بحيث لا تعرض إلّا كتباً ومطبوعات من البلد الذي نشأت فيه، ولا تتعامل إلّا بـ “عملة” بلدها الفكرية. وهذه دلالة مضافة؛ لأن هذا التقليم سينعكس على المضامين الفكرية التي تحملها هذه البيوت المتنقّلة.
تنحسر عنها صفات أكثرها أهميةً الأفق القومي ومشاغله
ويُمثّل تصدُّرُ الناشرين للمشهد، أعني تحويل البيت المتنقّل إلى “اختصاص” لهم، انحساراً لدور المفكّرين والكتّاب والفنّانين، أي أصحاب المنتَج الثقافي، وغياب أي طرح مختلف عمّا هو شائع؛ ما يتردّد دائماً بمناسبة أي معرض هنا أو هناك، عن مشاكل الناشرين مع التأشيرات والتكاليف والأسعار وما إلى ذلك، وغياب أيّ تناول لقضايا مثل الصراع الفكري الدائر في عالم اليوم ومفاعيله الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ومثل ما هي حصيلة أو حصاد آلاف المطبوعات التي تترحّل من هذه الجزيرة العربية إلى تلك، بل وما هي حصيلة وأغراض الترجمة التي أصبحت تتزايد حصّتها من إجمالي الإصدارات.
وهل يساهم كل هذا، العارض والمعروض والناقل والمنقول، في تنمية ثقافية أو اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية؟ أم أن وظيفته الوحيدة هي جني الأموال وبناء العمارات وامتصاص المزيد من الأموال بأهون السبل؟
هذه القضايا، وما يماثلها، جديرةٌ بالتفات المعنيّين الذين يتحدّثون عن المعارض كما لو أنها “بيوت ألواح” مقدّسة أو “بيوت حكمة”، بينما هي لا تحمل ملمحاً من ملامح القداسة، ولا شِية من شِيات الحكمة، بقدر ما هي “أسواق” بكل ما تعنيه هذه الكلمة من دلالة سلبية في ضوء افتقارها حتى إلى صفات ومفاعيل أسواق الجاهلية الشهيرة وما تماثل معها لاحقاً من أنشطة تبادل وتعارف تتخطى الزوايا الضيقة التي تُحشر فيها كما تُحشر أشجار “البونساي”.
بل ويُرافق تكاثرها، الشبيه بتكاثر نباتات الفطر، إلغاء دَوْر ووجود “المكتبات” المُقيمة في العواصم العربية، وكأن المجتمعات العربية تعزف عن المستقرّ والمُقيم اللذين لا تقوم حضارة من دونهما، وتُباشر العودة إلى الترحال وعادات الترحال وما يرافقه من قيم سلبية؛ مثل إهدار بُعد الزمن والإنتاج الذي منه كل شيء حيّ، واستعادة زمن الغزوات والصراع على الكلأ والماء.