جاءت تسميتها بصنعاء القديمة لكونها النواة الأولى للنشأة والتطور الذي شهدته المدينة عبر عصور متعاقبة حتى بداية تاريخ اليمن الحديث عامة وتاريخ المدينة الحديثة خاصة. صنعاء القديمة تشهد حالياً مذبحة” تتحدث دعاء الواسعي، وكلها حسرة إزاء ما تشهده مدينتها، المُدرجة في قائمة التراث العالمي، من مخالفات الهدم والبناء، التي تزايدت بشكل لافت في الشهور الأربعة الأخيرة، وتقول إنها مخالفات غير مسبوقة تمس روح المدينة وتهدد معمارها الفريد، متهمة المؤسسات المعنية بالتواطؤ مع المخالفين الذين تحركهم التجارة من ناحية وسوء الظروف المعيشية الناجمة عن الحرب من ناحية أخرى.
وفي تصريح لـ “القدس العربي” اعتبر مطهر تقي، رئيس الهيئة الأهلية للمحافظة على المدينة، الوضع الراهن هو الأسوأ في تاريخ المدينة الحديث “لأن المخالفات زادت مؤخراً بشكل مزعج، وصارت المدينة تواجه بالإضافة إلى عدوان طائرات التحالف، من السماء عدوانا آخر في الأرض من بعض الأهالي والتجار في ظل غياب دور المؤسسات المعنية”.
وجاءت تسميتها بصنعاء القديمة لكونها النواة الأولى للنشأة والتطور الذي شهدته المدينة عبر عصور متعاقبة حتى بداية تاريخ اليمن الحديث عامة وتاريخ المدينة الحديثة خاصة.
وتتميز مدينة صنعاء القديمة بطراز معماري يخص اليمن، ويعرف بالطراز الصنعاني، وهو الدُور المبنية على النمط العمودي متعددة الطوابق التي يصل ارتفاعها إلى ثمانية وتسعة طوابق، ومواد البناء عادة هي الحجر والطين والطوب المحروق والرخام والخشب والجُص، وفق أحد المصادر التاريخية.
وتتكون المدينة من منظومة متكاملة من المنشآت الحضرية يمثل السوق مركزها، ومنه كانت النشأة الأولى للمدينة وفق مؤرخين، وإليه تنتهي كافة الطرق المؤدية إلى أحياء المدينة الثلاثة، والتي تتوزع إلى حارات، ولكل منها مسجدها وفي مقدمتها يبرز الجامع الكبير أحد أبرز وأقدم المعالم الإسلامية والمراكز الدينية للمدينة، التي يحيط بها سور بمنشآت دفاعية مختلفة؛ وهو سور اندثر معظمه.
ولخصوصية تراث المدينة المعماري وصبغته الاستثنائية العالمية أدرجتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “يونسكو” في قائمة التراث العالمي عام 1986. إلا أنه مع تزايد تهديدات المدينة جراء تراجع الجهد الوطني في الحفاظ والحماية أقرت المنظمة عام 2015 إنزال المدينة إلى قائمة التراث المهدد بالخطر، وهي الخطوة التي تسبق عادة – إخراج المدينة من قائمة اليونسكو في حال لم تعمل السلطات الوطنية على إزالة المخالفات.
وشهدت المدينة في النصف الثاني من القرن العشرين حملة دولية للمحافظة عليها، كما تواترت حملات محلية ظلت معها المدينة في مواجهة مستمرة مع مخالفات بقيت تعمد على تشويه معالمها واستهداف نمطها المعماري، مستفيدة من ضعف جهود الهيئة اليمنية للمحافظة على المدن التاريخية وتدني وعي بقية السلطات داخل المدينة بمهامها في اسناد جهود الحماية.
قصة التهديدات
وحسب مصادر محلية فقد ارتفعت وتيرة المخالفات داخل المدنية بشكل واضح منذ عام 2011 وذلك مع ما شهدته سلطة الدولة من تراجع جراء ما عُرف، حينها، بأحداث الربيع العربي التي طالت اليمن. وكانت المشكلة التي تواجه جهود الحفاظ، حينها، تتمثل في ضعف الميزانية التشغيلية لهيئة المدن التاريخية، وغياب التنسيق المسؤول بين كافة السلطات داخل المدينة واستمرارها في تقاذف المسؤولية فيما بينها بالإضافة إلى تدني وعي المجتمع بدوره في الحفاظ على مدينته، ونتيجة لذلك بقيت المخالفات تزداد وتتسع، مستفيدة من الجو السياسي العام غير المستقر.
بالإضافة إلى المخالفات كانت وما زالت المدينة تعاني من تدهور في بنية الخدمات، وخاصة شبكة مياه الشرب والصرف الصحي، وتوقف برامج الترميم ومساندة جهود السكان؛ وبالتالي كانت هناك مبان وسماسر “حانات” تنهار وأخرى مهددة بالانهيار بسبب تأخر الترميم وبعضها جراء تسرب رطوبة المياه للأساسات بالإضافة إلى أسباب ومشاكل أخرى، وهو واقع ما زالت تعيشه المدينة، للأسف الشديد!
مع اندلاع الحرب في البلاد عام 2015 تعرضت المدينة لغارات من طائرات التحالف الحقت فيها أضراراً كبيرة، وفي المقابل أوقفت وزارة المالية في صنعاء ميزانية تشغيل هيئة المدن التاريخية؛ فتراجعت جهود الحفاظ عليها، التي كانت بسيطة جداً، كما تراجع التنسيق بين سلطات المدينة أكثر مما كان.
ووفقاً لورقة قدّمها وكيل نيابة الآثار والمدن التاريخية في صنعاء محمد الكستبان لندوة حول وسائل الحفاظ على المدينة عُقدت في منتصف العام الماضي فإن عدد المخالفات داخل المدينة، والتي صدرت في شأنها قرارات من النيابة المختصة، قد وصل في عام 2017 إلى 76 مخالفة. وشهدت المدينة في العام نفسه تهديدات كبيرة منها حفر عدد من الانفاق تحت تأثير أوهام الكنوز.
خلال العام الماضي ظلت جهود الحفاظ تتراجع وصولاً لمستوى غير مسبوق بالتزامن مع تفاقم الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للناس مع استمرار الحرب والحصار، وهو ما أسهم في تفاقم الوضع داخل المدينة.
تقول دعاء الواسعي، التي ترأس مؤسسة عرش بلقيس الثقافية لـ”القدس العربي” إن المخالفات التي كانت تشهدها المدينة في الفترات السابقة حتى وإن كانت كثيرة إلا أن معظمها كان غير جسيم، بينما نجد كثير من المخالفات التي شهدتها المدينة في الشهور الأخيرة هي مخالفات جسيمة وفق ما نشاهده نحن سكان المدينة، وفي المقابل وجدنا تراجعا كبيرا لجهود الحماية، بل صار هناك تواطئ مع المخالفات من المؤسسات المعنية بالحماية، وإن كنا لا نملك دليلا على ذلك، إلا أننا نقول إن المدينة تشهد تهديدات بالغة الخطورة، ومن أجل هذا نظمنا عدداً من الوقفات الاحتجاجية، وما زلنا نناشد بسرعة انقاذ المدينة.
وبدأت بلدية العاصمة في الآونة الأخيرة تشييد نافورة اسمنتية في حرم سور المدينة القديمة، وهو ما قوبل بانتقاد ناشطين طالبوا بإيقاف المشروع باعتباره يسيئ للرؤية البصرية للمدينة ويمثل تعدياً على حرمها، ووفق مصادر فإن منظمة اليونسكو، خاطبت، الأسبوع الماضي، السلطات هناك، وطالبت بإيقاف تنفيذ المشروع وإزالته.
زحف الدكاكين
أما عما تشهده المدينة في الداخل فيمكن مشاهدته خلال زيارة لبعض حاراتها، وخاصة في المنطقة الجنوبية بين باب اليمن وسوق الملح، حيث سيندهش الزائر مما طراً عليها من تحولات، من خلال ظهور كثير من الدكاكين في الحارات وقيام بنايات بأنماط معمارية مخالفة، بل ثمة تحول وظيفي تشهده المدينة في استخدام المعالم والمباني؛ فبعض سُبل الماء الوقفية تحولت إلى دكاكين، كما تحولت طوابق أرضية في بعض المنازل إلى دكاكين في سياق زحف الأسواق على الأحياء السكنية.
وتحدث مطهر تقي عن أكثر من 110 مخالفات شهدتها المدينة في الشهور الأربعة الأخيرة، وقال: “لسنا موافقين على ما يجري، ولسنا مع حزب ضد آخر، ما يهمنا هو أن يأتي مَن يحمي المدينة ويحافظ عليها مهما كان انتمائه الحزبي”.
وحسب متابعين يقف وراء ما تشهده المدينة عاملان: العامل الأول: تنافس التجار على الاستفادة من عائدات الحركة التجارية الوفيرة داخل المدينة؛ وهو التنافس الذي أوصل سعر المتر المربع فيها إلى مبالغ مهولة؛ الأمر الذي يغري بعض ملاك البيوت لبيع منازلهم ومغادرة المدينة تحت إيقاع الواقع المعيشي المتردي للكثير، وهنا يتم تمكين التجار من تحويل المسار السكني للمبنى إلى مسار تجاري. ويتحدث بعض السكان عن قيام بعض الملاك بإفساد أساسات البيوت بما يؤدي لانهيارها ليشيدوا على أنقاضها أبنية جديدة تتحول إلى دكاكين ومبان تجارية. العامل الثاني: تدهور الأوضاع الاقتصادية جراء الحرب والحصار – كما سبقت الإشارة- دفع بعض السكان إلى حل مشكلتهم المعيشية من خلال تحويل الطوابق الأرضية لمنازلهم إلى دكاكين أيضاً لتصبح الدكاكين تهديداً خطيرا لتاريخ المدينة. وربما يمكن إضافة عامل ثالث يتعلق بتهاون السلطات في تطبيق قانون الحفاظ على المدن التاريخية.
النسيج العمراني
ما الخطورة التي تمثلها هذه المخالفات على المدينة؟ هنا يحذر الخبير اليمنيّ في التراث العالمي نبيل منصر، من أن هذه المخالفات تنال من الطبيعة الاستثنائية العالمية للمدينة، كما تشكل خطراً على نسيجها العمراني. وأوضح لـ”القدس العربي”: في سياق تحويل بعض المباني السكنية إلى مبانٍ تجارية، يتم ارتكاب مخالفات جسيمة متمثلة في التحوير الذي تشهده هياكل المباني، حيث يتم توسيع الطابق الأرضي من خلال إزالة بعض الجدران من أجل تحويلها إلى دكاكين؛ وبذلك تصبح تلك المباني عُرضة للانهيار مع أي هزة أرضية، علاوة على ما يمثله تكديس تلك الدكاكين بالسلع البلاستيكية وغيرها من السلع القابلة للاحتراق مما يضيف تهديداً آخر للمدينة في سياق زحف الأسواق على الأحياء، والذي يشمل، أيضاً، ما نشاهده من تحول بعض المتنفسات والمساحات الخضراء في المدينة إلى مناطق بيضاء وكتل عمرانية.
النسيج الديموغرافي
كما حذر منصر من تهديد آخر للمدينة؛ ففي بموازاة التحول الوظيفي للنسيج العمراني، وفي سياق تحويل المسار السكني للمدينة إلى مسار تجاري، دكاكين تحدث عن تهديد للنسيج الديموغرافي، وقال: هناك تجار يشترون منازل من بعض السكان الذين بدورهم يضطرون لمغادرة المدينة فيحل بدلاً عنهم سكان من مناطق أخرى وهذا التغيير الديموغرافي يؤثر على روح وأصالة المدينة.
وأشار إلى أن منظمة اليونسكو من خلال لجنة التراث العالمي ستناقش في شباط /فبراير المقبل تقريرا عن وضع المدينة، وبناء عليه – كما يقول- سيتم تشكيل لجنة، بعد الحرب، لتقصي الحقائق عن الأضرار التي ألحقتها الحرب بالمدينة والأخرى التي تمت من المجتمع وتتحمل مسؤوليتها السلطات القائمة.
ومع ارتفاع الأصوات التي تندد بما تشهده المدينة ناقش مجلس النواب، الذي يعقد جلساته بأعضائه المتواجدين في صنعاء، ما تشهده المدينة مؤخراً من مخالفات، وذلك في إحدى جلسات الأسبوع الماضي، ودعا أحد أعضائه، وفق خبر بثته وكالة “سبأ” اليمنية للأنباء (نسخة صنعاء) “بتشكيل لجنة خاصة للعمل على إنقاذ المدينة وتراثها المعماري الفريد”.
اليونسكو
مندوب اليمن في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “يونسكو” أحمد الصيّاد قال إن المنظمة الدولية تتابع الوضع في المدينة، لكنه أعرب عن أسفه لوجود لجنة وطنية لليونسكو في صنعاء ولجنة أخرى في عدن نتيجة للأوضاع غير الطبيعية التي تعيشها البلاد على حد تعبيره.
وعن الإجراءات التي تتخذها المنظمة إزاء استمرار المخالفات في أي مدينة مدرجة في قائمة التراث العالمي أوضح السفير الصيّاد لـ”القدس العربي”: “عندما يتم التأكد من تغيير المعلم نطلب من السلطات الوطنية التدخل وإعادته إلى ما كان عليه، وإذا تكررت المخالفات، ولم يقم الجانب الوطني بواجبه فإن المعلم أو المدينة قد تنقل إلى قائمة التراث المهدد بالخطر، وبعد ذلك قد تخرج المدينة من قائمة اليونسكو”.
حكاية المدينة
وتُعدّ صنعاء القديمة من أقدم مدن الشرق القديم، إلا أن قصة نشوئها يكتنفها الغموض؛ ويؤكد كتاب “صنعاء” الصادر عن أمانة العاصمة اليمنية ومنظمة العواصم والمدن الإسلامية عام 2005 “تعذر إعادة صياغة قصة نشوئها في أعماق التاريخ، إذ لا يمكن للشواهد المادية الباقية من آثارها أن تسعف في معرفة البداية”. لكن الكتاب يشير، في الوقت ذاته، إلى إجماع مجمل المصادر الإخبارية على “قِدم المدينة وعراقة عمارتها وعمرانها وطيب عيشها ونسيمها” وأنها بُنيت بعد الطوفان بتأسيس سام بن نوح لقصر غُمدان. واشتهر سوقها ضمن أهم أسواق العرب قبل الإسلام.
وصنعاء في اللغة اليمنيًة القديمة مشتق من الجذر “صنع” بمعنى حصن ومنع. ووفق أحد المصادر فإن هذه المدينة “المأهولة بالسكان منذ 2500 سنة” قد مرت بعدد من المراحل التاريخية كان فيها سوق تجاري ومركز سياسي قبل الإسلام، و”عقب ظهور الإسلام توفرت لصنعاء الشروط الأساسية لإقامة مجتمع حضري بكل أدواته من جامع ومدرسة وحمام وسوق ومعمار جميل. وتكرّست عمارتها بملامح ارتبطت بأسلوب البناء التقليدي المحلي العربي القديم، والذي أصبح لاحقاً من عناوين فن العمارة اليمنيّة”.