كيف حالك مبدعا نازحا؟ كتّاب يمنيون يروون حكاياتهم مع الحرب والنزوح
لم أعد أتذكر ماذا تعني كلمة نزوح في قواميس اللغة، لكنني أتذكر جيدا بيتي وأسرتي الصغيرة ونهار صنعاء وأصدقائي المتخمين بالحب وأزدرد النشيج! يمن مونيتور/القدس العربي
كيف حالك مبدعا نازحا؟ سؤال طرحته «القدس العربي» على عددٍ من المبدعين اليمنيين، الذين أجبرتهم الحرب على مغادرة مناطقهم وترك كل شيء وراءهم بحثا عن أي مكان آخر للعيش. هنا تحدثوا عما صارت إليه حيواتهم وطقوسهم في أجواء النزوح والحرب المستعرة في بلادهم منذ أزيد من ثلاث سنوات:
كاتبٌ يتلاشى!
الروائي سامي الشاطبي نزح من صنعاء
إلى عدن، ومنها إلى الصومال وعودة إلى عدن:
لم أعد أتذكر ماذا تعني كلمة نزوح في قواميس اللغة، لكنني أتذكر جيدا بيتي وأسرتي الصغيرة ونهار صنعاء وأصدقائي المتخمين بالحب وأزدرد النشيج! لم أكن ممن طمع في الهجرة، رغم تيسر ذلك لي، ولم أكن أفكر أكثر من الاهتمام بعملي وأسرتي وقراءة الكتب وكتابه الروايات. كانت حياتي هادئة لكنني في مطلع العام الماضي بكيت مثل طفل فقد أمه في زحمه السوق؛ لأنني أُجبرت على الخروج من صنعاء خوفا من نفسي التي تمادت في أطروحاتها السياسية، وهربا من جوع بدأ يحاصرني! والقصف كان عاملا ثالثا. مدينة تقصف بشكل يومي،
لقد جمعت بعض أغراضي وانطلقت لا أحمل مليما واحدا… بدت عدن رغم عراقيل الطريق كبلد آخر؛ ثمة كهرباء، ثمة أناس يحلمون. وصلت عدن نازحا إليها وأمضيت ثلاثة أشهر فيها من دون أي دخل، وبعد ثلاثة أشهر بدأت أسرتي في صنعاء تتضور جوعا، حلمي بنقلهم إلى جانبي تبدد؛ فخرجت هاربا من عدن إلى الصومال. أتذكر أنني كنت أمشي في أحد شوارع «هرجيسا» وليس في جيبي مليم واحد، أتحسس لغتي وهي لا تشبه لغتهم، أتحسس فؤادي وهو يبدو مكشوفا وعاريا مثل السماء! لأول مرة انخدع ويبكيني قلمي، أنا الذي قضيت 24 عاما كاتبا مجتهدا لم تقذف به كلمة مما كان يكتبه لعوالم الحزن. عندما تختلط الكلمة المكتوبة بالبكاء يصير ثمة معنى مغاير للكتابة! لأول مرة أكتب ودمعي يختلط بدمي هاربا إلى قلبي! لأول مرة أقع في الفخ الذي كثيرا ما نصبته عبر كتاباتي الروائية للقراء لأقع فيه أنا، مجرد كاتب يتلاشى… لا أحمل سوى هُوية مبعثرة بين وطنين ونسخ يتيمة من مؤلفاتي التي وقعت في فخها كما أوقعت غيري، لم تتح لي فرص أفضل في الصومال، فعدتُ إلى عدن التي منحنتي بعضا من الأمل. موجز القصة أنني ضائع أخطو من دون أمل وبجانبي أسرتي الصغيرة وأشياء أعجز عن كتابتها مثل أي كاتب فاشل.
بدت عدن رغم عراقيل الطريق كبلد آخر؛ ثمة كهرباء، ثمة أناس يحلمون. وصلت عدن نازحا إليها وأمضيت ثلاثة أشهر فيها من دون أي دخل، وبعد ثلاثة أشهر بدأت أسرتي في صنعاء تتضور جوعا.
الفن في مواجهة الحرب
الفنان التشكيلي عبد الغني علي
نزح من تعز/جنوب غرب إلى صنعاء:
«في ظل ظروف الحرب والنزوح فتحتُ في صنعاء مرسما على الشارع، وأعمل على تدريس وتدريب بعض الفنانين الهواة أو غيرهم، وتنفيذ رسومات بورتريه لمن يريد… كل ذلك من أجل توفير ما يساعد على العيش والبقاء. على الرغم من قسوة الحرب علينا إلا أن علاقتي باللوحة مستمرة وأعمل باستمرار على إنجاز لوحات جديدة من أجل التخلص من معوقات الحرب النفسية؛ فالفن يساعدنا على مواجهة تأثيرات الحرب، ولولا الفن – ربما – كنا قد أصبحنا مجانين. لا يمكن تجاهل تأثير النزوح على التجربة الإبداعية، وهو ما يمكن قراءته في لوحاتي التي اشتغل عليها خلال فترة الحرب والنزوح، حيث اشتغلت على الأرض وما خلفته الحرب، وحاولت من خلال الفرشاة واللون تجاوز التأثير النفسي للحرب على الذات المبدعة، حيث نحرص غلى أن يبقى ذلك التأثير إيجابيا في أعمالنا، بمعنى أن الفن يبقينا في حالة دفاع عن النفس، ومن خلاله نعمل من أجل البقاء والاستمرارية. صار لديّ عدد كبير من اللوحات الجاهزة، التي أنجزتها خلال الحرب وعددها ما بين خمسين وستين لوحة، ولم أتمكن من تنظيم معرض خاص بها بسبب ظروف الحرب والنزوح.
حياة قلقة ومزعجة
الروائي والكاتب المسرحي منير طلال
نزح من صنعاء إلى عدن/ جنوب:
عام من الغربة في وطنٍ مدمر، وطنٌ يعاني من تمزق نسيجه الاجتماعي، حيث المناطقية والانتماءات الضيقة تتحكم بمجريات الأحداث ليكون وضع أمثالي غربة مضاعفة.. وفي ظل هذا الواقع المؤلم لم أنجز أي كتابة إبداعية؛ فأنا لم أستقر تماما. غلاء المعيشة والوضع الأمني من أهم الهموم التي تسيطر عليّ. أصبح هَمّ الحياة للغد هو الهم الذي يفكر فيه الجميع. لم أعد أقرأ كما كنت في السابق.. بعد أن فارقت مكتبتي ومسكني أصبحت الحياة قلقة ومزعجة. صرتُ أحلم بأن استقر من جديد بعد أن فقدت الطمأنينة والسكينة التي كانت من أهم أسباب نشاطي الإبداعي. هنا في حياة النزوح نعيش كابوسا مخيفاُ، الوطن أصبح سجنا ومقبرة للمبدعين والكل في رحلة نزوح قسرية غير مرحب بهم؛ فكيف يمكن في مثل هذا الجو المليء بالقهر والظلم والتعسف والطغيان أن نبدع؟
النزوح هو حياة مختلفة كليا عن حياتك السابقة، حيث تودع مرغما كل ما تملك وكل ذكرياتك وكل طقوسك المعتادة، تودع المكان والزمان والناس.
النزوح حياة مختلفة
الكاتب والناقد محيي الدين سعيد
نزح من الحُديدة/غرب إلى صنعاء/ وسط:
النزوح هو حياة مختلفة كليا عن حياتك السابقة، حيث تودع مرغما كل ما تملك وكل ذكرياتك وكل طقوسك المعتادة، تودع المكان والزمان والناس، وتبدأ من الصفر في مدينة جديدة مع ناس جدد وعلاقات جديدة في ظل ظروف صعبة. لقد عشتُ في مدينة الحُديدة ثلاثين سنة تقريبا فأصبحت كل خلايا تفكيري منسجمة مع هذه المدينة المنكوبة الآن. اليوم أنا في صنعاء نازحا وأستعد لمواجهة البرد ومنكب على القراءات… أما الكتابة فأحس بأن المبدع الذي في أعماقي قد مات تقريبا، ومازلت أنتظر عودته للحياة. الحقيقة أن الحرب ليست وحدها التي أثرت على نشاطي الإبداعي، بل إن التأثير بدأ مع بداية الربيع العربي في 2011، ومازال قائما بعد دخول اليمن وعدد من الدول العربية في الوطن العربي في دوامه وحروب لم نغادرها أبدا… وهذا ينسحب على كل نشاطي الإبداعي، حيث لديّ عدد من المخطوطات الجاهزة لإصدارها في كتب، وكانت لديّ مشاريع كثيرة كنتُ أود إخراجها خلال الثماني السنوات العجاف التي مرت علينا. والحقيقة إننا نعاني كمبدعين.. وقد تخلى الجميع عنا، ولذلك نحن نصارع من أجل البقاء بالدرجة الأولى، ولذلك الإبداع في اليمن أصبح متراجعا بشكل مخيف.