كان هيغل وهو يمارس حياته الفلسفية في وقت شلينغ وهولدرلين، يسمى “الرجل العجوز”. وأنا أكتب هذا المقال، فكرت في رواية البرازيلي جورجي أمادو كاناكان العوام الذي مات مرتين. لا يزال هذا العنوان يرن في أذني كما لا تزال ترن في أذني جملة ماركس: التاريخ يعيد نفسه مرتين، مرة بشكل مأساوي ومرة بشكل ساخر… كان سقراط الفيلسوف ضحية للنظام الديمقراطي الأثيني. قتل بالسم وهو يفكر في موته. قبِله بطواعية شبه رواقية كما لو كان المسيحَ وهو يقبل عملية صلبه. وحين كتب أفلاطون محاورته فلكأنه لم يكن يرثيه أبدا وإنما يجعل منه مسيح الفلسفة الوديع، الذي لم يكن يشكل في الحقيقة أي خطر على السلطة غير كونه فيلسوفا.
هل الفسلفة إذن ضد الديمقراطية أم هي شرط للديمقراطية؟ يثير هذا السؤال ما يثير من الفضول. حين نعود لأصول الفلسفة، فسنرى بعين الفلسفة نفسها (محاورات أفلاطون) أن الفلسفة ليست ضد الديمقراطية لأنها تترعرع كفكر في الشروط. فالفيلسوف الكلاسيكي، راعي الحقيقة. وبهذا الصدد يكفي الاطلاع على حكاية الفلاسفة الكلبيين كي نقف على صلافتهم ووقاحتهم في قول الحقيقة، ضدا على الرواقيين الذين يكتفون، مثل أيوب، بألمهم ومعاناتهم وعذابهم… في انتظار الفرد.
نهاية الفلسفة أم موئلها؟
كان هيغل وهو يمارس حياته الفلسفية في وقت شلينغ وهولدرلين، يسمى “الرجل العجوز”. وهو نعت ينطبق عليه تماما كما على فكره. ففي كتاباته عن تاريخ الفلسفة تحدث عن نهايتها Ende. فلقد كان هذا الفيلسوف بشكل ضمني وغامض أيضا يعتبر أن الفلسفة لا يمكن أن تمارس في الصبا بل في نهاية الحياة ومنتهاها. التفكير الفلسفي إذن حسب هيغل لا يتم إلا في الأصيل، وهو ما يعني، بشكل ما، أن هيغل هو منتهى الفلسفة ونهايتها.
وبشكل ما أيضا يمكن أن نعتبر هذا أمرا صحيحا. فكل الفلسفات التي جاءت بعد هيغل سعت بصورة أو بأخرى إلى تفكيك هذه الفلسفة الشامخة المؤمنة بالتاريخ أكثر من إيمانها بالمستقبل. فكانت مطرقة نيتشه بدايتها. ولذلك اعتبره هايدغر آخر الفلاسفة الميتافيزيقيين، بمقابل هيغل الذي يمكن أن نعتبره آخر الفلاسفة العقلانيين في الحداثة. كان تفكيك هايدغر للفلسفة الميتافيزيقية مجهودا حثيثا أعاد للفلسفة وهجها، غير أنه أيضا كان بداية إعلان عن هشاشتها: فلقد “جرؤ” على فتح الفلسفة على الشعر ضدا على العقل، مستعيدا الفلاسفة الإيليين ماقبل السقراطيين الذين أسسوا أصل الفلسفة في الشعر. كما أنه استعاد بشكل ضمني طبعا علاقة الفلسفة بالألوهة وببعد صوفي دفين سوف يكون في أصل تيار لاهوتي جديد لدى بعض من تلامذته…
هذا الانفتاح حرر التفكير الفلسفي (منذ نيتشه) من النسقية وربطه بالأدب، وبالحياة اليومية. وهو ما استعاده بشكل مغاير من اعتبرهم آخر الفلاسفة، أعني جاك دريدا ومشيل فوكو وجيل دولوز. أما الفلاسفة الجدد الذين جاؤوا بعدهم وبالموازاة معهم، فإن برنار هنري ليفي، رمزهم “الأقوى”، يفصح لنا عن الجانب المظلم من تلك الهشاشة. لقد تحولت الفلسفة على أيدي هؤلاء إلى إيديولوجيا وسياسة تفكر في الاتجاهات ومن غير أي هدف معلن.
مآل الفلسفة اليوم…
هل هذا يعني أن الفلسفة تعيش اندحارا؟ هذا هو الإحساس اليقيني الذي صار لدينا اليوم، نحن تلامذة ماركس ونيتشه وهايدغر ومن حذا حذوهم. ففي عصر الصورة والتواصل الإعلامي، تحولت الفلسفة إلى شذرات وحكم ومواعظ يتم تداولها في غير سياقها. لقد صار الخلط واضحا بين الحكمة الشعبية و”الأفوريزم” والقول الفلسفي. وصار الذكاء الفلسفي يستهدف “التطهير” النفسي في الحياة الاجتماعية. وأضحى الدرس الفلسفي في الجامعات أشبه بالتلاخيص والحواشي والتذييلات التي مارسها الفقهاء المسلمون على المصادر الفقهية الكبرى.
بل إن بعض الفلاسفة الشباب (ولعل أبرزهم فانسان سيسبيديس) اليوم في فرنسا حولوا الفكر الفلسفي إلى مقاولة تشتغل كمقاولة إرشاد و”كوتشينغ”. ولا أدل على ذلك من كتاباته عن السعادة ؟؟؟ وغيرها، التي تشبه رواية موجهة إلى المكتئبين والباحثين عن إكسير الحياة. وهذا ما لاحظه بشكل كبير فانسان ديكومب بقوله: “إن المعالجة الفلسفية لأنماط الوجود يتكفل بها اليوم كَتَبَةٌ للسعادة الجاهلة للوجود، والتي ليست “الفلسفة” فيها سوى اسم خاطئ، وقطاع من النشاط والاتجار، وهو فسحة زمنية يتم اغتصابها تحت “عنوان زائف” يكون على الفلسفة القاصرة بالمقابل فضحها من خلال الاستطلاعات والتحقيقات والمقالات تكون خصوصية بحيث عن شكل من الفكر الخاص وحده يمكن أن يجعل وجاهتها ممكنة”.
بيد أن هذا المصير ليس سلبيا ولا إيجابيا في حد ذاته. ذلك أن انفتاح الفلسفة على غيرها، كان ديدن فلاسفة القرن الماضي. فلقد حول والتر بنيامين وحنا أرندت، الفلسفة إلى فكر اجتماعي وسياسي وثقافي، كما أن عالم الاجتماع الألماني جورج سيمل منح للعديد من كتاباته منحى فلسفيا. لقد تحولت الفلسفة تدريجيا، وبفضل التواصلات والتقاطعات بين السياسي والنفسي والاجتماعي، إلى علم اجتماعي مركب. إنها وضعية تبدو لي متماشية مع التكوين الجامعي نفسه في الغرب كما في بلداننا العربية. فالدعوة إلى التفاعل بين العلوم والمباحث صارت موضة نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي، وصار الباحث الفيلسوف المتخصص في موضوعه شأنا نادرا. وصرنا نلفي الفيلسوف يتحول إلى عالم اجتماع وأنثربولوجي وهذين الأخيرين يمارسان التنظير الفلسفي… إنه مسير نجد أصوله في الفكر الفلسفي الكلاسيكي نفسه. غير أن الفيلسوف اليوم لم يعد يبحث عن الحقيقة بل عن تنسيبها، ولا في الفضيلة والخير والشر وإنما عن القيم الاجتماعية الجديدة التي صارت تستعصي على الإمساك، حتى بالطريقة الفلسفية التقليدية (الموسوعية والعميقة جدا) التي مارسها بها الفيلسوف الفرنسي جانكلفيتش… فحين تقرأ دريدا مثلا تجده يتحدث عن الدين والغفران بالنبرة نفسها التي يتحدث عن صيدلية أفلاطون أو قصائد مالارمي. كما أن كتابات الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبري لا تترك مجالا لم تطرقه، كالسياسة الدولية والأخلاق والصورة وغيرها.
فلسفة اليوم هل هي فلسفة؟
نتذكر أن دولوز طرح ( مع زميله المنسي فليكس غاتاري) سؤال ما الفلسفة (1991)، في أواخر حياته. وهو حين يبرر هذا السؤال يقول بأن الفيلسوف اليوم لا يطرح هذا السؤال إلا نادرا، فيما كان الفلاسفة السابقون يطرحونه بشكل مجرد. الفيلسوف الذي يطرح اليوم سؤال الماهية هذا، يطرحه في شيخوخته (لنتذكر ما قلناه عن هيغل)، وفي منتصف الليل حين لا يعود له سؤال يطرحه. إنه السؤال الأخير. سؤال ما الفلسفة هذا طرحه دولوز وغاتاري في وقت كانت فيه الفلسفة قد تحولت من الداخل، وتجاهلت دورها في إنتاج المفاهيم، وفي وقت صارت السوسيولوجيا تنحو إلى تعويضها بسبب ذلك.
حين تريد أن تقرأ كتابا فلسفيا اليوم، بعد وفاة دريدا ودولوز وفوكو، قلّ أن تجد اسما يراود فكرك ونظرك. فالفلسفة اليوم لم تعد تأتينا من فرنسا وألمانيا والعالم الأنغلو أميركي. إنها تأتينا من إيطاليا في كتابات أمبرتو إيكو، وبالأخص في كتابات أغامبن… ومن إسبانيا ومن بعض بلدان أميركا اللاتينية وأفريقيا ( السنغالي سليمان بششير دْيانيْ، الذي ستصدر لنا ترجمة لأحد كتبه في الأسابيع االمقبلة) بيد أن هذا التجديد يحمل بذور عناصر “الانحطاط” التي تحدثنا عنها سابقا، فهي فلسفة تنصاع للتفكير في كل شيء ومن خلال كتابة شذرية تستدعي التفكير كما تستدعي التساؤل. وربما كان أغامبن آخر الفلاسفة الكبار، فعالم الصورة والكليب والشذرات المهاجرة من شاشة إلى أخرى ومن هاتف إلى آخر أمور تجعلنا نتذكر مسرحية برتولد بريشت الشهيرة: “صعود وانحطاط مدينة ماهاغوني”، وانحسار فعل القراءة والتجريد لدى الإنسان المعاصر.
طبعا حين نقول إن الفلسفة ماتت مرتين، فليس ذلك للتحسر عليها، ولا للتحسر على وضاعة الكتابات الفلسفية الراهنة. ولا أيضا على أفول الأسماء الكبرى، فعالم اليوم قد حول كل شيء إلى صورة، أي إلى شبح. إن قولنا ذلك له مضمره، فالفلسفة مثل طائر الفينيق تولد من رمادها. جددها نيتشه من خلال التراجيديا الإغريقية، ومنحها سارتر وجودها الضمني في الأدب من خلال مسرحياته وكتاباته عن بودلير وجان جوني، وفرّعها دريدا في الحديث عن الترجمة والأدب والأمور الاعتيادية…
إن موت سقراط هو موت للشخص، وموت الفلسفة هو فقط موتها كما تصورناها سابقا. علينا ربما اليوم أن نبحث عنها في غير أمكنتها الاعتيادية، فهي تعود للوجود في شذرية كتابات الأدباء (سيوران) وتفكير علماء الاجتماع واللسانيين، بشكل جديد ومتجدد، لكن بشكل أكيد. الفلسفة نسغ الفكر، وهي حين نخالها تأفل فلأن نارها تسري في ما يحيط بها فتمارس العدوى على كل جيرانها…