سأحاول في لمحة سريعة أن أعرض للقارئ ملامح النظرية السياسية في ضوء القرآن الكريم لنكون تصورا ولو بسيطا في ضوئه ننتقد ما نراه يستحق النقد.
يقال بأن الديمقراطية هي أهم ما أنجزه الإنسان في إطار تنظيم علاقته مع أخيه الإنسان، ولكن كعادة الأفكار تتأثر بالبيئة التي ولدت فيها، فإذا ما أحببنا أخذ الخبرة البشرية (الحكمة) من الآخر فعلينا أن نشذبها من علقات بيئتها، ثم نكيفها على ثقافتنا إن كانت ثقافتنا تحمل ثقافة إنسانية أعلى، وواحدة من هذه الأفكار التي جاءتنا مع علقاتها هي فكرة الديمقراطية، وهنا قد يستغرب القارئ الذي تعود من الكاتب انحيازه للأفكار التنويرية فكيف سيعمل مع فكرة عالمية بالكاد اقتنعت بها بعض التيارات الإسلامية! هو ليس رفضا للديمقراطية ولكنه تحسين لها من شوائب الرأسمالية.
لقد تسربت الرأسمالية في معظم الأفكار المعاصرة حتى صارت هي الممسكة بخيوط الأفكار عالميا، وصار على المثقف اليوم أن يتحسس تغلغل الرأسمالية في حياتنا بما يجعلنا محكومين لبضع شركات عالمية.. ليس من السهل أن نتحرر منها تماما، ولكن يكفي أن نتخفف منها ونعي أننا في دوامتها كي نحاول الخروج والنجاة.
سأحاول في لمحة سريعة أن أعرض للقارئ ملامح النظرية السياسية في ضوء القرآن الكريم لنكون تصورا ولو بسيطا في ضوئه ننتقد ما نراه يستحق النقد.
لم يفصّل القرآن نظرية سياسية كي نأخذ بها، وإنما اكتفى بأصول عامة يمكن للعقل المسلم أن يجعل منها منطلقا في التنظير السياسي لاستكمال عمارة الأرض، ومن تلك الأصول جعل الأمر (أي الشأن السياسي الدنيوي) شورى بين الناس، بما يحقق العدل كمقصد أساس من مقاصد التشريع في علاقة الناس فيما بينهم، وبما يحفظ كرامتهم ويحقق الحرية لهم في اختيار ما يريدون دون إكراه، ولا شك أن الناس إن أعملوا عقولهم حول تلك الأصول فإنهم سيصلون للشكل الأنسب لإدارة حياتهم.
إن الأمر هو المصطلح الذي ذكره القرآن لما نسميه اليوم السلطة السياسية، وأولوا الأمر هم أولوا السلطة السياسية، ولا يوجد سلطة غيرها تنظم أمر الناس، فكيف نختار أولي الأمر وكيف تتم عملية الشورى؟
لقد جعلت الآية إدارة الشأن السياسي (الأمر) عائدا للناس يتشاورن فيه ويختارون الطريقة والشكل الأنسب لهم في كل زمان ومكان، تقول الآية: { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } (الشورى 38)، وهذا ما عمله الجيل الأول حين اختاروا بوسائلهم المناسبة لعصرهم عبر البيعة أميرا يكون هو ولي أمرهم، ثم يختار قاضيا لفصل النزاعات، ويختار له مجموعة ممن يراهم أهل حكمة ليكونوا مستشاريه، ربما كانت تلك الصورة بدائية إذا ما قورنت بما وصلت له اليوم التجربة الإنسانية من آليات لتحقيق مقاصد العدل والحرية، لكنها إذا ما دُرست ضمن سياقها التاريخي فإنها تجربة جيدة، هذا مع العلم إن تجارب اليوم ليست متحققة كما هي في كتب منظّريها وفلاسفتها وإنما هناك التفاف كبير حولها توجهه سياسات الهيمنة.
إذن ما دام الأمر شورى بين الناس في كل زمان ومكان فمن حقهم أن يختاروا اليوم الوسيلة الأنسب لتحقيق العدالة والحرية والأمن للناس، ومن حقهم اليوم أن يختاروا الأشكال المناسبة للحكم سواء كانت رئاسية أو برلمانية، وأن يختاروا الآلية المناسبة للانتخابات سواء عن طريق نظام الصوت الواحد أو عن طريق التمثيل النسبي، فكل تلك الآليات والنظم تجربة إنسانية إن كانت تحقق أعلى مستوى للعدل فهي الحكمة التي نحن أولى بها، ومن حق كل بلد أن يختار وأن يكيف ما يناسبه، وتلك التجربة لو لم يصلها الغرب لوصلها غيرهم، ولربما لو لم تتراجع الحضارة الإسلامية منذ قرون لكانت اتجهت إلى مثل تلك الآليات لتدبير شأنها السياسي انطلاقا من التوجيه القرآني الذي جعل ذلك عائدا لهم.
أما أهل الشورى الذين يستشيرهم ولي الأمر فهم أهل الحكمة، القادرون على استنباط الرأي السديد من مختلف المجالات الدنيوية، وهذا ما أشارت إليه الآية {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ …} النساء83. فأهل الحكمة يستنبطون الرأي السديد الحكيم بالتفكير والنظر في الأمور بحسب الخبرة والتجربة التي يمتلكونها، وهم من أطلق عليهم في تراثنا “أهل الحل والعقد”، لأنهم من يحلون القضايا أي ينقضونها وهم من يعقدونها.
وحتى نحقق اليوم أكبر قدر من الرأي السديد والحكمة في شتى المجالات الدنيوية (السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والحربية …الخ) كان لابد أن يكون أهل الشورى من مختلف مجالات وتنوعات وخبرات وفئات المجتمع، ففيهم العلماء من كل التخصصات وفيهم العسكريون (المتقاعدون) والتجار والقضاة والمهندسون والأطباء والحقوقيون والمحامون والمدرسون ورؤساء الأحزاب والجماعات والأقليات المذهبية والدينية والكتّاب والمفكرون وشيوخ القبائل، والنساء والشباب…الخ.
هكذا ينبغي أن يكون مجلس الشورى (النواب) كي يحقق مقصد الشورى في أفضل وأعلى مستوياته، أما اقتصار ذلك المجلس على فئات قليلة من تلك المجالات فإنه لا يحقق الهدف من تكوينه، ولا يحقق الرأي السديد والحكمة إذا كان هناك مجالات لا يمثلها أحد، وربما حصل تقصير أو جور كبير بسبب ذلك النقص، وولي الأمر لا يستطيع مهما أوتى من ذكاء وعبقرية أن يفهم في كل المجالات، وأن يتنبه لكل القضايا، لذلك جاء المصطلح في القرآن بصيغة الجمع دائما “أولي الأمر”.
إذن فمجلس الشورى وهو الحلقة الأهم في تحقيق الديمقراطية لا بد أن يكون متنوعا من أهل الحكمة أولا، ولا بد أن يتصف أهله بالكفاءة والخبرة في تخصصهم (القوة)، وبالأمانة وتحمل المسؤولية تجاه من وثق فيهم (الأمانة) ثانيا، فإذا اختل أحد الشرطين لم يحقق مقصد الشورى.
ولو تأملنا لواقع مجالس الشورى (النواب) في البلاد العربية سنجد أنها لا تتنبه لذلك الهدف من الشورى، فالصورة الحالية للانتخابات لا تحقق الشرط الأول وهو التنوع والشمول، إذ نجد في اليمن مثلا أن شيخ القبيلة وشيخ الدين يستحوذا على غالبية المقاعد في مجالس النواب (الشورى) لما لهم من وجاهة اجتماعية، وهذا يفقد المجلس تنوعه المهم، ومن ثم يفقده الحكمة في التعامل مع القضايا التي لا يعرفها أولئك، وعلى هذا فإن اختيار مجلس النواب (الشورى) بنظام “التمثيل النسبي” هو الأقرب لتحقيق مقصد الشورى، وهي آلية ديمقراطية من ميزاتها الحفاظ على أصوات الأقلية، كما أنها تجعل الاختيار للأفضل حكمة لا للأقدر تملقاً للناس! بهذه الطريقة سيضم مجلس النواب (الشورى) أكفأ الناس خبرة وأكثرهم حكمة، فيشرعوا للناس التشريعات المناسبة التي تنهض بحياتهم وتخفف من صراعات مجتمعهم.
ولكنها لن تكون بنفس طريقة التمثيل النسبي المعروف، وإنما تطعم بفكرة التنوع فيخصص مجلس الشورى لكل احتياج وتخصص عددا معينا من المقاعد ثم يترك الأمر مفتوحا لمن يريد أن يترشح في التخصص المطلوب.. ستواجهنا بعض المشكلات البسيطة في هذا الشكل الجديد لكننا نستطيع أن نتغلب عليها ما دامت أهدافنا واضحة.
أما المشكلة الأخرى في قضية الشورى، فهي تلك الأعباء المالية الكبيرة التي يضطر أن يتكلفها المرشح، فالدعاية تضخمت بشكل مفجع، تطاردك اللوحات والملصقات والإعلانات في كل شارع عن هذا المرشح أو ذاك، وهنا يتقدم صاحب رأس المال على صاحب الخبرة الذي لا يجد كل ذلك المال لحملته، وربما سنفقد شخصيات مهمة لم تستطع الترشح مطلقا لهذا السبب. تخيلوا معي مثلا حجم ما ينفقه مرشح الرئاسة الأمريكية، إنه مبلغ هائل يصل إلى 2 مليار دولار!! من يستطيع دفع ذلك المال؟ إلا رجل رأسمالية جاء من الشركات أو رجل تدعمه الشركات وفي كلا الحالتين سيحقق أهداف الرأسمالية ولن يخرج عن سياساتها، وانظروا حال الرؤساء الأمريكيين.
والحل بسيط جدا لو كان هناك بعض العقل، إذ ما الداعي لكل تلك الملصقات التي تملأ الشوارع، إنها تكرر صورة المرشح! وماذا تهمني صورته ولوحاته الكبيرة! وماذا تهمني تلك الحملات التي تعبث بالمال يمينا وشمالا لتؤثر علي وتخترق وعيي كي أظل أسيرا لرأس المال.. يكفيني بضع صور في مركز الترشيح لأراه، وبرنامج تلفزيوني تفسحه الدولة والقنوات الخاصة لكل مرشح ليطرح رؤيته، وبرنامج إذاعي لمن يتابع الإذاعة، ويكتب ذلك البرنامج ليطبع ضمن الصحف الرسمية لكل مرشح، بدل أن تمتلئ تلك الصحف بالتفاهة.. أظن هذا كافيا ليجعلني أختار الشخص المناسب في الرئاسة أو البرلمان، وهذا لن يكلف المرشح كثيرا فكله على حساب الدولة، وبضع صور لن تكلفه شيئا، إذا ما افترضنا أنها على حسابه.. وهنا سنسمح للفقراء من أهل الخبرة والكفاءة والأمانة أن يصلوا لمكانهم في انتاج الحكمة ولا نقصر ذلك المكان على الأغنياء فقط.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.