دعوات السلام هذه غاضبة من الحاضر، ولكنّ الآخرين الرافضين لصيغة هذا السلام الهشة غاضبون من الحرب وقلقون من المستقبل. هناك دعوات سلام كثيرة من قبل دول كبرى ومنظمات مدنية وقوى اجتماعية ربما يئست من إمكانية حسم المعركة عسكريا مع الحوثيين، وربما جاءت بدافع مخاوف من توسع المأساة الإنسانية في اليمن.. هذه الدعوات تنطلق اليوم ولا تدرك أنها ستعمل على ردم تاريخ كبير من الجريمة السياسية والسلالية التي ارتكبتها مليشيا الحوثي منذ انقلابها على الدولة أواخر 2014 واحتلالها العاصمة صنعاء ومدن أخرى.
دعوات السلام هذه غاضبة من الحاضر، ولكنّ الآخرين الرافضين لصيغة هذا السلام الهشة غاضبون من الحرب وقلقون من المستقبل.
نعم، ليكن السلام إذن كما يرى الداعون إليه.. سنبحث عن سلام مع مليشيا الحوثي وهي تسيطر اليوم على ثلث مناطق اليمن تقريبا، نعم سنكون شركاء مع هذه المليشيا التي تخفي في سجونها آلاف الناشطين والسياسيين، وربما نكون في المدى القريب بجوارهم في السجون، وربما يلقى أصحاب دعوات السلام نفسه هذا المصير.
نعم سنذهب إلى السلام مع الحوثيين وقد قتلت هذه المليشيا عشرات الآلاف من اليمنيين، وانتهكت جميع حقوق الإنسان، وقتلت المئات تحت التعذيب وعذبت المختطفين، وكممت أفواه جميع المعارضين، وفرضت ضرائب فادحة وإتاوات على كل فئات المجتمع، وتخلت عن أدنى مسؤوليتها في تسليم رواتب الموظفين، بل حاولت ابتزازهم أكثر، وحولت كل الموطنين في مناطق سيطرتها إلى بؤساء ومرضى وتعساء وخائفين، ولم تفكر يوما بالتراجع عن دفع شعب كامل نحو المنتصف الأخير من الجحيم ونحو المناطق الأكثر ظلمة في التاريخ.
لماذا يتناسى هؤلاء أن هذه المليشيا كانت هي المسؤولة عن إجهاض كل محاولات السلام التي بذلها المجتمع الدولي، وقدمت لها حكومة الرئيس هادي التنازلات تلو التنازلات طوال سنين هذه الحرب الطويلة الملعونة.
ليس هناك بيئة سياسية أو اجتماعية أو عسكرية مواتية لفرض سلام على الأطراف السياسية في اليمن.. ما الذي تغير في المشهد السياسي بالآونة الأخيرة حتى يضغط المجتمع الدولي وأمريكا بالأخص نحو إيجاد حل سياسي لوقف الحرب، والغريب أنه بحسب تصريح وزير الخارجية الأمريكي سيكون خلال شهر نوفمبر.
لنرَ ما هو الحل السحري الذي بيد الأمريكان هذه المرة للضغط على السعودية والإمارات وللضغط على قادة مليشيا الحوثي، ولنرَ إذا ما كان فرضُ السلام بهذه الطريقة الهشة التي يدفعنا بها المجتمع الدولي سيقي مستقبل اليمن من الحروب القادمة أو سيجنب اليمن حدوث المزيد من الصراعات في الأشهر أو السنوات القادمة على أبعد تقدير..
نعم هناك مأساة إنسانية واسعة ومجاعة تكاد تفتك بمعظم المواطنين، وهذه المجاعة والدمار الحادث تتحمل مسؤوليته مليشيا الحوثي ودولتا السعودية والإمارات، كما تتحملان كل النتائج المترتبة عن إطالة مدة هذه الحرب وإعاقة الحكومة اليمنية عن العمل، وتطبيع الأوضاع في المناطق المحررة، ومسؤولتان أيضا عن كومة الخراب هذه التي تعيشها البلاد..
لا يمكن لعاقل اليوم أو مراقب منصف للمشهد اليمني أن يبرىء السعودية والإمارات عن المسؤولية الكاملة عما يحدث في اليمن، إلا من كان من وزرائنا أو مسؤولينا المعتقلين في السعودية أو المغرمين بها، وإن كانوا مغرمين بها إلى حد أنهم لا يستطيعون إدراك ذلك القبح الذي تمارسه هاتان الدولتان فهؤلاء عاشقون متواطئون، وما على العاشق ملام.
وإلى كل الذين يؤمّلون إنجاز صيغة سلام مع مليشيا الحوثي قد تقود إلى يمن أفضل ولو نسبيا أقول: لا معنى للحديث عن تأسيس لدولة ديمقراطية عادلة أو احترام سيادة القانون أو حقوق الإنسان أو إقامة الحكم الفيدرالي، ولا معنى للحديث عن أي مستقبل لليمن في ظل وجود القوة والأسلحة بيد مليشيا الحوثي.. لماذا ستضع مليشيا الحوثي الفاشية أدوات قوتها لتبني لك وطنا قابلا للعيش أيها الإنسان الحالم.. ولا معنى للحديث أيضا عن أي مستقبل في ظل تدخل السعودية والإمارات في الشأن اليمني وخوضهما هذه الحرب لتحقيق مكاسبهما السياسية الضيقة، والتي تهدف إلى تقسيم اليمن والاستيلاء على تركة هذا الجسد الممتد من سواحل المهرة في الشرق وحتى أقاصي صعدة في الشمال.
لا يُمكن أن تُنجز صيغة سلام في اليمن على هذه الشاكلة السطحية والساذجة التي يدور بها الحديث الآن، وسيكون جميع هؤلاء العائدين إلى السلام الآن عائدين إلى الحرب مرة أخرى.
كونوا صادقين مع أبناء الشعب وقولوا إن هذا السلام ربما يجنبكم المجاعة ولكنه سيُدخلكم جحيم الحرب مرات كثيرة، خذوا أنفاسكم ورمموا منازلكم فستعود الحرب بأطماع كثيرة وضراوة أشد.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.