وضّاح اليمن هو شاعر غزل وسيم حتى أنّه كان من شدّة وسامته؛ يضع قناعا على وجهه درءا للحسد وفتنة النساء به معا تتنوّع الأجناس الكتابيّة التي تتّخذ الحبّ موضوعا لها، في تراث العرب؛ تنوّعا مثيرا، حيث الشعر مصدر اقتباس في جلّها. ولعلّ هذا ما يستدعي الوقوف على هذه العلاقة الطّريفة بين الشعر وهذه القصص المتناسلة منه، وهي ليست مجرّد سرد لوقائع غراميّة أو مجرّد عرض لأخبار المحبّين وما يلاقونه من عذاب في سبيل حبّهم؛ وإنّما هي ضرب من ضروب جماليّة التّلقّي يتولاّها جنس أدبيّ مخصوص هو فنّ الحكي أو السرد.
من هذا الجانب أحاول أن أعيد ترتيب العلاقة بقصّة الشاعر عبد الرحمن بن إسماعيل الحميري المعروف بوضّاح اليمن (ت.89 هـ/ 708م)؛ من منظور تداولي»براغماتي»، وفي ضوء مفهوم»التلفّظ» الذي يمكن أن يعين في حدود قد تتسع وقد تضيق، على إدراك الأفكار المتصرّفة بشخصيّات هذه القصّة العجيبة: وضّاح اليمن وأمّ البنين زوجة الخليفة، والخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك وخادمه (مجهول الاسم)، فننظر إلى كلّ منها؛ وإنْ باختزال شديد، من ناحية نفسها ونوازعها الخاصّة وبواعثها الدّخيلة. وهي لا شكّ في غاية الدّقة والتّعقيد.
أسلك إلى هذه القصّة كما صاغها أبو الفرج في الأغاني؛ من المعنى الحافّ، ومصدره التجارب الفرديّة الخاصّة والجماعيّة العامّة؛ وقد أغفله كلّ القدماء الذين استوقفتهم القصّة، بدءا بالاصفهاني وصولا إلى طه حسين في كتابه ”حديث الأربعاء”، بل أغفلوا الثغرات السرديّة التي تتخلّل النصّ.
أمّا وضّاح فهو شاعر غزل وسيم حتى أنّه كان من شدّة وسامته؛ يضع قناعا على وجهه درءا للحسد وفتنة النساء به معا. وكان قد شبّب بأمّ البنين بنت عبد العزيز بن مروان (أخت الخليفة عمر بن عبد العزيز)، وامرأة الخليفة الوليد بن عبد الملك. وكان ذلك بطلب منها، وهي في الحجّ؛ إذ كانت تصبو مثل غيرها من حرائر قريش إلى أن يتغزّل بها الشعراء. وخشي بعضهم غضب الخليفة، مثل كثيّر عزّة، وتجرّأ وضّاح فتغزّل بها. فأحبّته وأحبّها، وطلبت منه أن ينتقل إلى الشام؛ وأن يمدح زوجها، حتّى تتوطّد علاقته بالقصر؛ ويكون بميسورها أن تراه بين الفينة والفينة. وهو ما تمّ، وهي بهذا المكر؛ إنّما كان تستدرجه، من دون أن تدري، إلى حتفه. ولحكّام العرب، ولع وشغف بالمدح، وكان الشاعر بمثابة الصحافي الذي يرهن قلمه في خدمتهم، فتعمَى أبصارهم وقلوبهم. وهكذا أصبح وضّاح من خاصّة الخليفة، و شبيه»عشيق الليدي شاترلي» في ذات الآن؛ يتردّد على مخدعها أو بيتها، ويقيم عندها كما تقول القصّة؛ والخليفة المخدوع ساهٍ غافل القلب عن ذكر وضّاح.
إلى هذا الحدّ قد تبدو القصّة عاديّة أو مألوفة، فهذا يحدث مع جلّ الأزواج المخدوعين؛ ولكنّ قول السارد في مقدّمة النصّ، وهو يمهّد لنهاية القصّة؛ إنّ أمّ البنين كانت إذا خافت العيون «وارتهُ في صندوق عندها، وأقفلت عليه» يخلّ ببنية النصّ؛ إذ يفترض أن تكون في الصندوق فتحة ما، يدخل منها الهواء؛ إذ كيف كان يتنفّس وضّاح.
وذات يوم يُهدَى الخليفة جوهرا من الحجر الكريم، فيؤثر به أمّ البنين؛ ويبعث به مع خادم له. وتنفتح ثغرة ثانية، إذ يدخل الخادم عليها «مفاجأة»؛ ووضّاح عندها، فتدخله الصندوق؛ وهو يراها. ولا نفهم كيف لخادم أن يقتحم على زوجة الخليفة مخدعها، إلاّ أن تكون أمّ البنين قد أبعدت يومها جواريها، أو أن يكون الخادم قد تلصّص عليها؛ وهي في خلوة مع عشيقها. وهو ما لا تقوله القصّة. وتتوالى الثغرات كما هو الشأن في قصص الإخفاء/ الاختفاء غير المحبوكة أو التي هي عمل هواة، فالخادم يدفع الجوهر إليها؛ ثمّ يحاول أن يبتزّها وقد رآها تخفي عشيقها أو معشوقها، ويطلب منها أن تهبه حجرا منه. وتردّ المرأة وهي تحقّره وتستصغره: «لا يا ابن اللخناء (التي لم تختن أو النتنة)، ولا كرامة». وهذه ثغرة أخرى لا نملك إزاءها سوى افتراضيْن اثنين: أن يكون الخادم قد نقل هذا الحوار، وهو ما لا يمكن أن يحدث أبدا، إذ هو يُقتل؛ أو أمّ البنين نفسها، وهذا مستبعد جدّا أيضا. ولا يبقى إذن سوى السارد العليم بذات الصدور شبيه الإله، وما تُسرّ الشخوص وما تعلن.
وربّما لا مسوّغ لذلك سوى هذه الوساطة اللعبيّة التي تؤلّف بين الذّات المتلفّظة وموضوعها، ولعلّها ليست أكثر من تفكير السارد «اللاعب» في لعبه.
ولنواصلْ مع القصّة، فالخادم يرجع إلى سيّده؛ ويشي بالزوجة؛ ويخبر الخليفة بما رأى انتقاما منها، ويصف له الصندوق الذي أخفت فيه أمّ البنين صاحبها. ولو رُزق حظّا من الذكاء؛ لكتم سرّ المرأة، ولم يحدّث حتّى نفسه بها. على أنّنا نتمحّل له بعض العذر، فهو لا يدرك أنّ أكثر ما يكره الزوج المخدوع؛ هو الواشي الذي يخبره بخيانة زوجته. ومن البدهيّ أن يكذّبه الخليفة، فيحقّره ويعيّره: «كذبتَ يا ابن اللخناء» ويأمر به، فتوجَأ عنقه في الحال. ولا ندري ما إذا كان الوجأ في السياق الذي نحن به، يعني القتل؛ ووجأه بالسكّين وغيرها: ضربه بها، أو يعني الخصي؛ والوجَأ أن ترضّ أنثيا الفحل (الخصيتان) بما يذهب شهوة الجماع، وهو يتنزّل منزلة الخصي كما جاء في اللسان. ولكنّنا أميل إلى ترجيح الفرضيّة الأولى أي فرضيّة القتل، فقد جرت العادة أن يُخصى هؤلاء الخدم قبل أن يمكّنوا من مخالطة حريم القصر؛ والخليفة يدرك لا شكّ أنّ الخادم هو الشاهد على الخيانة، والشهود يُقتلون عادة.
تتمنّع أمّ البنين: «خذْ غيره، فإنّ لي فيه أشياء أحتاج إليها». ويصرّ الخليفة، فيكون له ما أراد.
ويدخل الخليفة على أمّ البنين، في الحال، وهي جالسة تمتشط؛ ويجلس على الصندوق الموصوف. ويجري حوار بينهما ماكر، فالخليفة يسأل عن سرّ اختيار أمّ البنين هذا البيت في القصر من دون سائر البيوت؛ وتجيب المرأة بأنّه يجمع حوائجها كلّها، فتتناولها منه، كما تريد؛ عن قرب. وهو جواب مقبول سائغ. ويعود فيطلب أن تهبه صندوقا من صناديقها الكثر. وتجيب بأنّها كلّها له، ويقول: «أريد واحدا منها، وأريد هذا الذي جلست عليه».
وتتمنّع أمّ البنين: «خذْ غيره، فإنّ لي فيه أشياء أحتاج إليها». ويصرّ الخليفة، فيكون له ما أراد. وكان بالإمكان أن تخرج أشياءها من الصندوق، ولكنّها لم تفعل، ولا هو طلب منها؛ وكأنّه يريد أن يحتفظ لها بصورة المرأة الوفيّة. وهذا حوار ماكر كما أسلفتُ، بل شائق؛ وهو يبطن ما يبطن من نوايا كلّ منها ومقاصده. وأنا أفترض عليه أكثر من افتراض لم يتنبّه إليه أيّ من رواة القصّة وشارحيها أو مفسّريها؛ ولا أحد منهم أخذ بالحسبان التفاصيل التي يكمن فيها الشيطان، وأنّ في البيت أكثر من صندوق: فالزوجة وهي جالسة تمتشط، تُوهمُ بأنّها غير عابئة بما حدث بينها وبين الخادم، والأرجح أنّها كانت بذلك تخفي اضطرابها، وما يجول بخلدها من هواجس أو يساورها من شكوك؛ وقد أدركت أنّ الخادم سيعود إلى الخليفة ويخبره بما رأى، وقد تكون ندمت على أنّها لم تمكّنه من حجر من الجوهر؛ حتّى تأمن شرّه، وتقايض به صمته. وفي هذه الحال يفترض أن تبادر بإخراج وضّاح من القصر، وتوصيه بأن لا يعود إليها أبدا؛ أو أن تخفيه في صندوق آخر.
وتتواصل القصّة، فالخليفة يأمر الخدم بحمل الصندوق إلى مجلسه، وحفر بئر عميقة تبلغ الماء؛ ودفن الصندوق. ثمّ يقول مخاطبا الصندوق: «إذا كان ما بلغنا حقّا، فقد كفّنّاك، ودفنّاك ودفنّا ذكرك؛ وقطعنا أثرك إلى آخر الدهر، وإذا كان باطلا فإنّا دفنّا الخشب؛ وما أهون ذلك.» والأقرب أنّه حوار باطني؛ ويقذف بالصندوق في البئر، ويصبّ عليه التراب؛ وتسوّى الأرض، ويردّ البساط إلى حاله، يجلس عليه الخليفة كما هو دأبه. ويكون بذلك قد دفن السرّ في بئر، كما نقول في عاميّتنا. ويختتم السارد القصّة، فما رُئيَ لوضّاح اليمن أثر في الدنيا إلى هذا اليوم؛ وما رأت أمّ البنين لذلك أثر في وجه الوليد؛ حتّى فرّق الموت بينهما.
تترتّب عن هذه القصّة جملة استنتاجات تضيق عنها هذه المقاربة، وهي التي تتهاوى جدرانها الفاصلة تباعا من خلال الثغرات والفجوات التي تتخلّلها؛ وهي جزء من استراتيجيّة لعبة القراءة، تتيح لنا أن نشارك السارد لعبته؛ وأن ننفذ منها؛ فنؤمّن لها بنيتها النسقيّة. ولعلّ أبرزها أنّ وراء كلّ «مخفيّ» امرأة (أمّ البنين)، وأنّ الوحيد الذي لا يتكلّم في القصّة هو وضّاح، والموتى لا يتكلّمون، وهو أشبه بيوسف، ولكنه يوسف الذي تُرك وشأنه في البئر. وها هي القراءة التداوليّة تخرجه من صندوقه؛ وأنا أتساءل: هل دٌفن حقّا حيّا كما تقول القصّة؟ ألا يكون قد قضّى حياته طريدا «مقنّعا» أو متنكّرا؟ بل ألا يمكن أن تكون أمّ البنين هي التي تخلّصت منه؟
نقلا عن القدس العربي