لا يتوقف الأمر هنا، فهناك طوابير للغاز بمئات، وأخرى للنفط والماء والمشافي والمعاملات البسيطة التي كانت تُنجز في غضون دقائق، استيقظت السادسة صباحًا للذهاب إلى مصلحة الجوازت والهجرة لغرض ما، قلتُ في نفسي يجب أن أسرع وأذهب قبل مجيء كثيرين حتى أتجنب الزحام. خرجت الثامنة تمامًا، ووصلت إلى الثامنة وسبع دقائق، ودخلت مختالة بنفسي: سأكون الأولى، أقضي غرضي وأذهب فورا، وإذا بي أتفاجأ بصفوف من الرجال والنساء، طابور أمام كل نافذة وباب، في الساحة الواسعة منتظرون كثيرون، يا إلهي كل هؤلاء يريدون السفر!
تخطّيت صفوف النساء في صالة المكتب الخاص بهن، وهن واقفات بحسرة وانتظار، أشرتُ بيدي إلى صديقتي، بالكاد استطاعت أن تخرج لملاقاتي، سمعت إحدى الموظفات تقول: من جاءت اليوم فلتعد من حيث أتتْ، لن ننجز لها، هناك من يسبقنها بأيام وأسابيع! رأيت على وجوههن أسى أيام طويلة وانتظار شاق وهن يسمعن الخبر واقفات!
خرجتُ من بين الزحام في الظل إلى الزحام تحت أشعة الشمس والنسوة واقفات بالخارج وقد أكلت الشمس رؤوسهن، وأصوات الرجال تتعالى متأففين من هذا الوقوف الطويل والعودة المتكررة كل يوم من أجل استخراج جواز سفر.
في الطريق وأنا عائدة وجدت طابورًا آخر أمام أحد المخازن، رجال ونساء على ملامح وجوههم/ن الحزن والحاجة، كل يحمل ورقته بيديه ويقول: الآن دوري. هذه المرة ليس لأجل استخراج جواز سفر، بل الحصول على أكياس من القمح من إحدى الجمعيات أو المنظمات التي لن تخرج منها إلا وأنت تشعر بالذل والعجز.
لا يتوقف الأمر هنا، فهناك طوابير للغاز بمئات، وأخرى للنفط والماء والمشافي والمعاملات البسيطة التي كانت تُنجز في غضون دقائق، في الجامعات والمدارس، في محلات الصرافة.. الجميع يُسرع كي يقف في الصف الأول من الطابور كي يُنهي معاملته باكرًا.
قد لا يبدو الأمر لافتًا أمام مرأى العالم لهذه التجمعات البشرية والطوابير التي لا تكاد تنتهي في بلد تعرّض للإفقار على مدى عقود طويلة، لكن يصبح الأمر كارثة لليمنيين، وهم على هذا الحال منذ أربعة أعوام، لا يحصلون على حاجاتهم الأساسية إلا بعد الوقوف الطويل! هل ستصبح حياة اليمني هكذا؟ الوقوف على طابور طويل من أجل العيش؟
لقد حوّلت الحرب الإنسان اليمني كائنا لا يقف إلا في الطوابير، ولا يصرخ إلا هناك، ها هو الفقر يشدّ على يد اليمني، ويفزعه كلّما تنفّس، أرهقته الحرب والمرض، ولا بارقة أمل توحي بالنصر القريب، الهزيمة تحيطك من جميع النواحي، وما عليك إلا الانتظار والترقب والموت، والصمت في أسوأ الأحوال، كي لا تُقتل أو تُخفى من دون أن يعرف أحدهم طريقًا إليك.
*نقلا عن العربي الجديد