كتابات خاصة

عبدالباري طاهر

حسن عبدالوارث

الحديث عن رجل تعرفه عن كثب، وتعايشه طويلاً، ثم ترى نفسك عاجزًا عن تسطير عبارة واحدة تفيه حقه، أو تشرح أبسط صفاته، أو توضحه على شدة وضوحه!

 قد يبدو الحديث عن عبدالباري طاهر مسألة سهلة، لكنها والله معضلة.
الحديث عن رجل تعرفه عن كثب، وتعايشه طويلاً، ثم ترى نفسك عاجزًا عن تسطير عبارة واحدة تفيه حقه، أو تشرح أبسط صفاته، أو توضحه على شدة وضوحه!
أعرف أن غيري سيتكفل بالمهمة..
فالزاد كثير حين يتعلق الأمر بالحديث عن مآثر عبدالباري طاهر في المشهد الصحافي -المهني والنقابي- ككاتب ورئيس تحرير، وكنقيب للصحافيين، وكمناضل في مضمار الحقوق والحريات الصحافية والسياسية والعامة. والتفاصيل تزدحم في هذا المشهد بالذات إلى حدّ التخمة.
والمخزون كبير حين يتطلب الموقف الحديث عن المسار السياسي للرجل في مشهد المعارضة والنضال الحزبي، السري أو العلني، منذ وقت مبكر، وفي ظروف أقل ما يمكن أن توصف به أنها بالغة التراجيديا لجهة الخطورة في مشهد الملاحقة والاعتقال والتعذيب، برغم أدواته السلمية والمدنية في مجرى هذا النضال.
ولن يعجز المرء إذا أراد الحديث عن التراث الابداعي أو الاشعاعي الذي سطَّره الرجل في سِفْر التنوير، في شتى مجالات الفكر الانساني، في الأدب والسياسة والتاريخ والاجتماع وفي غيرها من تلاوين النشاط الذهني، بالرغم من أن العدد المحدود من الكتب التي صدرت له حتى الآن لا يساوي عُشْر ذلك التراث، للأسف!
ولعل ما تقدَّم من سطور هي ملامح وبصمات يعرفها كل من قرأ لعبدالباري أو قرأ عنه، أو أستمع اليه أو سمع عنه، أو رافقه وزامله في نشاط عام في مرحلة ما أو في مواقف معينة. غير أن غير العارف بعبدالباري طاهر الإنسان لا يدري أن بصماته السلوكية بأثرها الأخلاقي تستحق التنويه بها كغيرها من مآثره الفكرية والنضالية.
كمثال أن نتحدث عن حالة من الترفُّع عن الصغائر أو الزهد في ما يتهافت عليه الآخرون. ولطالما ظللنا نترصد مكامن المثالب في خصومنا، فيما يستفزنا عبدالباري ببحثه عن فضائل خصومه. وهذه واحدة من أبرز ملامحه الشخصية أو مفردات هويته الإنسانية.
وثمة ملمح آخر. كانت معرفتي الحقة به إثر قيام دولة الوحدة وانتقالي للإقامة والعمل في صنعاء، ثم مجيئه إلى رئاسة تحرير جريدة “الثوري” التي كنت أعمل فيها حينها، برغم أنني تعرفت عليه قبلذاك بصورة غير مقرّبة خلال زيارة قمت بها إلى صنعاء.
وخلال تلك العلاقة الممتدة طويلًا، كان عبدالباري -ولا يزال بالطبع- صديقي وزميلي.. وبين هاتين الصفتين، كان -ولا يزال بالطبع- أستاذي. وبرغم نأيه عن الاعتراف بهذه الصفة الأخيرة في علاقاته بالجميع، إلاَّ أنه يظل الأجدر بها. فالأستاذ الحق هو من يجعلك تشعر في حضرته بأنك أستاذ لا تلميذ، على العكس من كثيرين يتصنَّعون هالة الأستذة فيما هم لم يغادروا بعد مقاعد التلمذة!
وثمة ملمح ثالث لعله أبرز ما يُميّز الرجل في تكوينه الثقافي والنفسي، وهو ملمح السخرية الطافحة الجامحة. عبدالباري طاهر ساخر بالفطرة، بل ساخر بالضرورة. فإذا سقط ملمح السخرية عن بورتريه عبدالباري طاهر، صارت صورته طبق الأصل من أية صورة تقابلها في تعاطيك اليومي مع رصيف الزحام المكتظ بأناس متشابهي الوجوه والأسماء والصفات.
والسخرية هي سلاحه الأمضى في التعامل مع القضايا والأشياء والأشخاص. ولكنه السلاح الذي “لا يُسيل دمًا” على حدّ وصف طه حسين، بل أنه يخلق ابداعًا من طراز خاص، ويبني رأيًا لا يتكرّر وموقفًا لا يتكسّر، في مجرى الصراع والمواجهة، ويخلق نكهة خاصة للتعامل اليومي مع التناقضات الحادة في الطبيعة والمجتمع والفكر الانساني. ولطالما سخر حتى من أولئك الباحثين عن مذكرة تفسيرية للنكتة، على حدّ وصفه.
وفي السنوات القليلة الماضية الممتدة حتى هذه اللحظة، اثر أن حدث الانقلاب ثم اندلعت الحرب في الداخل وجاء العدوان من الخارج، اختلط الحابل بالنابل في المشهد السياسي والاجتماعي والإعلامي، على نحوٍ أبعد ما يكون عن الجدل العقلاني أو المنهاجي وأقرب ما يكون إلى الهَرْف والخَرَف. وقد راحت مطارق وفؤوس تهوي على رؤوس عدد من المثقفين وأهل الرأي والكلمة، في مضمار المواقف المعلنة تجاه ما حدث ولا يزال يحدث في الساحة الوطنية والأقليمية..
وكان عبدالباري طاهر واحدًا ممن نالهم بعض ذلك لمجرد ابداء الرأي والخوض في الجدل تجاه حقيقة الحدث وهوية أطرافه، بل راح البعض ينبش في جذور شجرة الأرومة التي ينتمي نسبًا إليها، كما حدث ويحدث لغيره من أهل الفكر والكلمة والرأي المغاير، ليس منذ الأمس القريب، بل منذ عهد بعيد، اثر أن تسيَّدت بذرة الأرومة مشهد الخصومة.
لقد اختلفت وعبدالباري طاهر كثيرًا في سياق عملنا اليومي، واختصمنا بِحِدَّة في بعض الحالات، فقررت بعدها أن لا أعمل معه أبدًا في موقع واحد. فأنا أحمق، عصبي، سريع الاشتعال بل والانفجار.. وهو دمث جدًا، هادىء جدًا، ساخر جدًا.. فإذا به قد أحال غضبتي إلى هزل وثورتي إلى نكتة! .. فقلت في نفسي: ابعد عن الشرّ وغنّ له.. حافظ على الصديق والأستاذ أفضل من خسرانه، لأن هذا الخسران فادح بكل معنى الكلمة.
وها أنا أتوقف عن الكلام في حضرة الصديق القدير والأستاذ الكبير.
شكراً عبدالباري لأنك صديقي وأستاذي.
—–
* الكلمة التي ألقيتها في حفل تكريم الأستاذ عبدالباري طاهر (صنعاء، 27 سبتمبر الجاري).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى