لا قلق على ثورتنا اليمنية الخالدة, فإن لم نملك السلاح سنقاومهم بذاكرتنا الطرية عن الحقبة السوداء من تاريخ الأئمة.. سنتذكر الجهل والمرض والفقر والعزلة والأمية والاستبداد والخوف وروائح السجون.. سنجعل كل ذلك وقوداً لأيامنا القادمة. لا قلق على ثورتنا اليمنية الخالدة, فإن لم نملك السلاح سنقاومهم بذاكرتنا الطرية عن الحقبة السوداء من تاريخ الأئمة.. سنتذكر الجهل والمرض والفقر والعزلة والأمية والاستبداد والخوف وروائح السجون.. سنجعل كل ذلك وقوداً لأيامنا القادمة.
– كيف وجدت يد مولانا الإمام أيها القاضي عبد الله؟
– عودي “عود!”.
هذا السؤال المفتوح على احتمالات الدهشة تلقاه القاضي عبد الله الحجري وزير المواصلات في عهد الإمام يحيى (ورئيس الوزراء في عهد الجمهورية) من أشخاص كانوا يعتقدون أن يد الإمام المتأله على الناس تختلف عن أيدي البشر.. فكان رد القاضي الحجري مؤلما وملفتا، لم يشأ السخرية من يد الإمام، بل وصف قسوتها كعود، لا يأتي بخير.
عزلة ألف سنة
هذا المدخل أجده الأنسب لرواية جزء بسيط من فصول ثورة أنقذت شعبا وأحيت أمة في جنوب جزيرة العرب، بعد أن دخل اليمن في عزلة وغيبوبة قسرية قرابة ألف سنة، منذ وطئ أرضه طاغية بعمامة رجل دين اسمه يحيى بن الحسين القاسم الرسي قادماً من جبل الرس بالمدينة المنورة التي ولد فيها منتسباً إلى الحسن بن علي بن أبي طالب.
ولأنه جاء معتقاً بأفكار دينية شديدة التطرف والعداء وتميل إلى لغة القتل والدمار، فقد منح نفسه لقب “الهادي إلى الحق” -تماماً كما يفعل الطغاة في كل العصور- وعُرِفَ لاحقاً بلقب “الإمام الهادي” رغم أنه خاض 45 حرباً ضد قبائل شمال اليمن لمخالفتها له في الرأي، وصلب الرجال على جذوع الشجر في مناطق بني الحارث وجدر حتى استأذنت النساء لدفنهم لأن روائح جثثهم آذت القرى المجاورة!
ومجيء الرسي الذي لا يزال مسجده قائماً في صعدة إلى شمال الشمال اليمني كان باستدعاء وجهاء قبيلتي خولان بن عامر وهمدان بن زيد للتحكيم بينهم، وهذا ما جعل جراح أبناء صعدة غائراً حين هجّرهم الحوثي من قراهم. ومرةً قال لي أحد مشايخ صعدة “نحن السكان الأصليون ويأتي عيال الرسي اليوم يطردوننا من أرضنا”.
توالدت سلالة الأئمة وزادت وحشيتهم في الدفاع عن حقهم الإلهي في الحكم، متدثرين بالزيدية وهي مذهب صغير لم يكتب له البقاء طويلاً بعد وفاة زيد بن علي رحمه الله، وهو ما يقر به علماؤهم بأن الموجود اليوم هو فكر هادوي لا يقبل بالآخر ولا يعترف به ولا يتعايش معه، ويسيرون على وتيرة واحدة من الرسي إلى عبد الله بن حمزة الذي أباد طائفة المطرّفية جميعاً لمخالفتها له في الرأي وكفر الأيوبيين، إلى الإمام يحيى الذي حكم حتى أواخر النصف الأول من القرن العشرين وقتل أبناء قبيلة الزرانيق التهامية المشهورة بالقوة والشجاعة حتى تخضع لحكمه!
الحوثي على نسق أجداده
لم يشذ عبد الملك الحوثي قيد أنملة عن نسق أجداده الأئمة، صحيح أنه لا ينتمي إلى أي أسرة حاكمة، لكنه يدعو إلى الحكم تحت راية البطنين وآل البيت، ويسير على خطاهم في معاداة منابع التنوير من مدارس وجامعات ومساجد، ويراها خصمه اللدود، وحيثما حل فجّر المدارس والمساجد وعسكر الجامعات، ورأى في المتعلمين ودعاة الحرية أعداء إرهابيين ودواعش وجب قتلهم والتنكيل بهم.
ولأنه شاب تلقفته مخابرات إيران فجأة بعد مقتل شقيقه المؤسس للجماعة حسين، فقد وجد عبد الملك نفسه مضطراً لإحاطة فراغه بثلة من الشباب الطامحين أنصاف المتعلمين الذين لا يتوقفون طويلاً للتفكير في الخطوة التالية، فما نسبته 90% من قيادات الجماعة الحوثية أعمارهم تحت الأربعين، ولا أحد منهم يملك خبرة في العمل السياسي، لهذا ملؤوا أنفسهم بعُصب متشنجة ومسلحة عوضاً عن الحوار والمنطق.
هذا النسق الاستبدادي والاستعلائي المتوارث كان يشيخ بمرور السنوات في مقابل ارتفاع الوعي عند الناس، وحين جاءت ثورة سبتمبر المجيدة طوت صفحة عمرها ألف سنة من الظلم والتنكيل والتجهيل للشعب اليمني، ومنحت المواطن دفعات معنوية كبيرة من الحرية والشعور بقيمته، فتحول من متفرج على عربات التاريخ وهي تتنقل بين قصور الحكم، إلى صانع للتحول ومدافع شرس عن ثورة منحته حقه في البقاء والعيش الكريم.
كان يمكن لثورة سبتمبر أن تعيد رسم سياسة المنطقة، وكان يمكنها بناء نظام جمهوري ديمقراطي قوي ومحصن، لولا الالتفاف عليها من قِبَل من التفوا على ثورة التغيير 2011, وكادت الجمهورية أن تسقط عام 1967 لولا أن هب كل الشعب للدفاع عنها في حرب السبعين يومياً، وفي مارس/آذار 1970 رعت السعودية اتفاقا غير مكتوب بين الملكيين والجمهوريين، وعاد الكثير من الملكيين إلى الداخل يرتزقون من النظام الجمهوري ويقودون الثورة المضادة لإسقاطه.
وكان التلميح إلى محاسن النظام الإمامي الكهنوتي يأخذ طوراً من المجاهرة خاصة وقد وقفوا عوائق أمام تطور الحياة، والاستفادة من خيرات الجمهورية. ولا أدل على ذلك من بقاء أهداف الثورة الستة كما هي بعد 53 عاماً من قيامها، وهي الأهداف التي يمكن تحقيقها في السنوات العشر الأولى من قيام ثورة سبتمبر.
غير أن تلميع وجه الإمامة القاتم والممتلئ بالدم والإجرام كان أسوأ ممن يبرر للشيطان تمرده على ربه، وفي إحدى جلسات المقيل الصنعاني تقدم مسؤول رفيع يلمع وجه نظام آل حميد الدين بحسن نية، وقال يكفي اليمن أنه في عهد الإمام يحيى كان الدولة الوحيدة التي لم تتأثر بنتائج الحرب العالمية الثانية!
نعم هي لم تتأثر لأنها لم تكن دولة أصلاً، وليس لها صادرات ولا واردات، ولا عملة متداولة خارج حدودها، ولا جيش، ولا شيء يربطها بغيرها من الدول، كانت رقعة جغرافية معزولة عن العالم.
سبتمبر الذي ولد فينا
“26 سبتمبر” يوم ولد فيه اليمن من جديد، وفيه أشرقت أرض السعيد بنور ربها، ورأت من آياته الكبرى ما يكفي لولادتها من جديد، فسبتمبر التنوير والتحرير حمل لنا هداياه الحسان من جامعات ومدارس وطرقات وكهرباء، وعرف الناس دولة اسمها اليمن، فقد جاءت ثورة سبتمبر وعدد المدارس صفر، والكهرباء لم تعرفها البلاد بعد، باستثناء مولد كهربائي صغير أهدته البعثة الروسية في الحديدة لسيف الإسلام الحسن.
كان آلاف اليمنيين يقضون سنوياً بأبسط الأمراض، وقواتنا المسلحة تعرف بالجيش الحافي، وكل طيران اليمن هو ثلاث طائرات صغيرة “شبام وظفار وبلقيس” خاصة بالإمام وأفراد أسرته، وتجارتنا الخارجية هي استيراد الشموع وزيت الكيروسين، ولا شيء يدل على توجه سياسي أو إنساني جاد لدى الأسرة الحاكمة لبناء الدولة، والشيء الوحيد الذي كان ينتشر في كل اليمن هو السجون والقيود الحديدية المرعبة.
لم يرَ الآخر البعيد دولة اسمها اليمن إلا بعدما حملها إليه سبتمبر العظيم، و26 سبتمبر/أيلول هو اليوم الذي شق تاريخ اليمن إلى نصفين، وأبرز علامة فارقة في تاريخ الجزيرة العربية، فقبل ذلك اليوم لم يكن ثمة ضوء يبرق في جنوب الجزيرة، فجاءت الثورة الخالدة كضوء البرق الكثيف، وجعلت العالم ينظر ماذا تخبئ هذه الأرض في ثناياها، وكانت “ثورة سبتمبر” رحماً تخلق في داخلها أبطال ثورة أكتوبر الذين حرروا جنوب اليمن وأجبروا الاحتلال البريطاني على المغادرة، وأصبح اسم “سبتمبر” قرينا لكل جميل في اليمن.
أما عند دعاة الإمامية وأعداء الحياة فقد كان كابوساً يؤرقهم، لذا لا أستطيع النظر بعفوية إلى موعد اجتياح مليشيات الحوثيين لصنعاء يوم 21 سبتمبر/أيلول، فقد أرادوا أن يستعيدوا في سبتمبر 2014 ما افتقدوه في سبتمبر 1962، وما كان لهم أن يتقدموا خطوة واحدة لولا خيانة كبار رجال الدولة، وفي مقدمتهم وزير الدفاع السابق محمد ناصر أحمد الذي سلمهم المعسكرات ومقدرات الدولة. وما ذكره الفيلم الوثائقي “الصندوق الأسود” الذي بثته قناة الجزيرة لم يكن غير نزر يسير من جرم كبير.
لا قلق على ثورتنا الخالدة، فإن لم نملك السلاح سنقاومهم بذاكرتنا الطرية عن الحقبة السوداء من تاريخ الأئمة.. سنتذكر الجهل والمرض والفقر والعزلة والأمية والاستبداد والخوف وروائح السجون.. سنجعل كل ذلك وقوداً لأيامنا القادمة.
المصدر: الجزيرة نت