البشر كذلك عندما يحزنون يصدحون بالمواويل.. الشعراء ينظمون القصائد الحزينة التي تكاد تذوب في قلبك قبل فمك.. يبدع الرسامون أجمل لوحاتهم الناطقة عند الأسى.. ولم يعرف الأدب العالمي روائعه الكبرى إلا من أتون الحزن في صدور المؤلفين حتى قيل أن أجمل تحف شكسبير الفنية هي مسرحياته التراجيدية التي ألفها بعد موت ابنه الوحيد..
عندما تحزن الحمام تُشجي الروح بهديلها، وعندما تحزن الحيتان تستمتع أعماق المحيط بأجمل أغنياتها المنتحبة، وعندما تحزن الغيوم و يثقلها الحمل تصبُ الغيث صباً على من تحت سقف السماء.. عليهم جميعاً بلا تفرقه..
البشر كذلك عندما يحزنون يصدحون بالمواويل.. الشعراء ينظمون القصائد الحزينة التي تكاد تذوب في قلبك قبل فمك.. يبدع الرسامون أجمل لوحاتهم الناطقة عند الأسى.. ولم يعرف الأدب العالمي روائعه الكبرى إلا من أتون الحزن في صدور المؤلفين حتى قيل أن أجمل تحف شكسبير الفنية هي مسرحياته التراجيدية التي ألفها بعد موت ابنه الوحيد..
الأناس العاديون حين يحزنوا يتذمرون.. يبكون ومنهم من يحطم كل ما حوله و يتحطم، تختلف ردة الفعل بحسب قوة صاحبها وخلفيته الروحية والفكرية؛ أما حين يحزن العظماء.. فهو أمر استثنائي ليس لأنهم غير البشر بل لأن شيئاً ما بالعالم سيتغير للأبد عند حزنهم، العظماء لديهم تلك الروح المقاتلة التي تجعلهم يندفعون أكثر لقلب المحنة كلما مزقهم الألم، لا يهربون.. لا ينهارون.. ولا يختبئون بل يقفون بصلابة لينتقموا من تلك المعاناة التي أوجعتهم، إنهم يستعملون حرقة قلوبهم… ولظى مشاعرهم كوقود لا ينفذ في معركتهم لتغيير وجه العالم الذي تمادى في القسوة عليهم أملاً منهم في جعل الأرض مكان أفضل للعيش.
ليس المهم بنظرهم أن يكون التغيير هائلاً فهم لا يخططون للمثالية أو للشهرة بل يكفي أن يحمي الآخرين من الأسى الذي تعرضوا له، إنهم وسط أحزانهم يفكرون بغيرهم كثيراً وبأن هذا الوجع فظيعٌ جداً و عليه أن يختفي من حياة البشر.. ذلك التفكير المستبسل وتلك العزيمة المعطاءة هي من تجعل العظماء عظماء.. فهم نبلاء جداً حتى في حزنهم ومعاناتهم..
الكثير يعرف أن توماس أديسون هو من أضاء العالم حين اخترع المصباح الكهربائي، والكثير يتحدث عن عزيمته الخرافية التي استمرت لسنين طويلة بجهود مضنية أثناء تجاربه لصناعة مصباح لا ينطفئ و يدوم طويلاً ورخيص التكلفة لكن ما لا يعلمه الغالبية هي حرقة أديسون التي تولدت منها معركته ضد ظلام الليل، فقد مرضت أمه وكانت الشخص الأغلى له فهي من تبنت عقله ونبوغه حين تخلى عنه العالم في صغره، كان مرضها شديد وعجز الطبيب عن تقديم الإجراء الطبي المطلوب لها في الليل فضوء الفانوس لا يكفي لإجراء هكذا عملية لها ، لذا لابد من الانتظار لضوء الصباح، والدة توماس توفيت قبل الفجر وسحق الحزن قلبه الذي ما أحب في الحياة أحداً مثلما أحبها، لقد كان ظلام الليل مساعداً في تدهور حالة أمه لتموت راميةً إياه في هاوية من ظلام مقيت، لقد مزقته تلك اللحظات البائسة التي عجز فيها أن يُشبع عينيه من تفاصيل وجهها الجميل فنور الفانوس كان خافتاً، “لقد آن الأوان ليرحل ظلام الليل من حياة البشر”.
هكذا قرر، حان الوقت ليضيء الليل بمصباح أقوى من مجرد فانوس، ولقد فعلها الابن المكلوم تكريماً لحزنه العميق على والدته الأغلى…
ليس أديسون الوحيد في ذلك فوراء الكثير من الاختراعات و الإبداعات قصص للوجع والألم التي تحولت لمعركة انتصر فيها العظماء على قدر (الشر) باستخدامهم لقدر (الخير) الذي يكافحون لصنعه، من تلك القصص حكاية العامل الكهربائي التقني الأمريكي صمويل مورس الذي اخترع في عام 1810 التلغراف الذي يعيد طباعة الأحرف بترميز خاص.. وكان ذلك أول جهاز اتصال من نوعه و فاتحة مذهلة لاختراعات هائلة في مجال الاتصالات، يقال أن موريس عزم على اختراع جهاز لنقل الرسائل لأن خبر مرض زوجته وصله متأخراً جداً و حين عاد من سفره ليراها كانت قد توفيت، “لقد حان الأوان أن لا تصل الأخبار متأخرة ” هكذا قرر، لابد أن تصغر المسافات التي تفصل بين الأحبة والبشر في العالم هكذا صمم، ولقد فعلها ليتغير العالم بذلك للأبد..
العديد من المؤسسات والجمعيات الإنسانية كانت وراءها مأساة شخص يبكي ليلاً ويناضل نهاراً ليحقق حلماً سكن قلبه الممزق لكن الأمر قد يكون أكثر بساطة، فالبسطاء يمكنهم أيضا تغيير شيء في العالم دون أي اختراعات أو مؤسسات، فالمقصد يكمن في التوهج الذي يتأجج في الصدر و يدفع المرء إلى أقصى إمكانياته ليفعل ذروة ما يستطيع.
الهندي Dashrath Manjhi الذي كان يسكن في قرية نائية ومعزولة في الهند، أصيبت زوجته إصابة خطيرة جداً وبسبب بُعد المسافة بين المستشفى والقرية والطريق الطويل المعوج 70 كيلومتر لم تصل سيارة الإسعاف في الوقت المناسب وماتت رفيقة الدرب بين يدي زوجها وهو عاجز لا يملك من أمره شيء، طلب من الحكومة أن تشقّ نفقاً في الجبل لاختصار الطريق إلى القرية حتى لا تتكرّر هذه الحادثة لأناس آخرين ولكنّها تجاهلته؛ فقرّر هذا الفلاح قليل الحيلة أن يتصرف بنفسه لكي يُنهي تلك المأساة التى يعيشها هو وأهل قريته، فأحضر فأساً ومعولاً وقرر أن يحفر بيديه طريقاً صخرياً برياً في الجبل، سخر منه جميع أهل القرية واتهموه بالجنون، وظنوا أنه فقد عقله بعد وفاة زوجته.�أمضى هذا الفلاح 22 عامًا من 1960 إلى 1982 يحفر في الجبل، يوميًا من الصباح إلى المساء، دون كلل ولا ملل، وهو من لا يملك إلاّ فأسه ومعوله وإرادة خارقة تواجه الجبل وصورة زوجته في ذهنه وهي تموت بين يديه.
ونجح في الأخير في أن يشقّ طريقا بطول 110 أمتار وبعرض 9 أمتار و بإرتفاع 7 أمتار، لتصبح المسافة بين قريته والمدينة فقط 7 كيلومترات بعد أن كانت 70 كيلومترا؛ وأصبح باستطاعة الأطفال الذهاب إلى المدرسة وأصبح بإمكان الإسعاف الوصول في وقت أقل.�لقد فعل هذا الرجل بيديه العاريتين لمدّة 22 عاما ما كانت تستطيع أن تفعله الحكومة في 3 شهور، وقد سُمّي هذا الفلاح برجل الجبل.
نعم هناك أقدار كبرى في الحياة لا يمكننا التحكم بها أو التنبؤ بحدوثها، فنحن البشر لدينا مساحتنا المحدودة للتلقي والسيطرة داخل أقدار كبرى وسنن كونية مهيمنة، ولذا تحدث المصائب والمآسي والفواجع ومهما حاول البشر تحسين حياتهم ستظل تلك الأمور السيئة تحدث، لكن السؤال ماذا ستفعل بكل هذا الألم الذي سقط عليك كالصاعقة أو كنيزك من عالم علوي؟؟
ماذا ستفعل بأوجاعك وجراحك؟؟
من قال أن الألم يُفترض به أن ينتصر.
المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور”.