كتابات خاصة

وعي دولة المستقبل

أحمد ناصر حميدان

صادفت الرئيس سالمين أكثر من مرة على الشارع العام دون حراسة وصافحته كمواطن، وهو يتفقد الأسواق والمؤسسات ويتلمس هموم الناس يتداول ناشطون فيديو استقبال رئيس الوزراء الدنماركي للرئيس الفرنسي في حديقة عامة، يتجولون بحرية وهم على دراجات هوائية بين عامة الناس؛ مشهد طبيعي في بلد تجاوز فيها الوعي حدود التمايز والفوارق الطبقية، وعي يدرك حدود مسئوليته في خدمة وطنه، وان المسئولية وظيفة عامة تكليف لا تشريف، لا تعطيك الحق ان تميز نفسك وتتخطى حدود المواطنة.
مشهد شغل تفكيري، و اوقفني امام عدة أسئلة حول دولة الجنوب اليمني الفتية وعاصمتها عدن المدنية، وبداية تشكل دولة المواطنة في حكم الاشتراكي، مرحلة لها وعليها، لولا الايدلوجية والتعصب القبلي والعشيرة لكان حالنا أفضل، وكان هذا المشهد سيكون طبيعيا في جنوبنا اليمني الحبيب، دولة قلصت الفوارق الطبقية، والتمايز بين الناس، كاد المسئول أن يكون مواطنًا ويمكن أن تلتقي به في أي لحظة وتصادفه على الشارع.
صادفت الرئيس سالمين أكثر من مرة على الشارع العام دون حراسة وصافحته كمواطن، وهو يتفقد الأسواق والمؤسسات ويتلمس هموم الناس، وتوقفت ذات يوم سيارة فخامة رئيس الوزراء على ناصر محمد في جولة ريجل وفتح بابها وطلب مني وزميلي الركوب، ونحن بالزي المدرسي، قائلا لماذا انتم هنا؟
والرد كان طبيعيًا، نحن ذاهبون للمدرسة، واقلنا لثانوية الجلاء؛ بل ترجل معنا من سيارته لزيارة الطابور الصباحي للمدرسة باعتباره وزيرا للتربية حينها، وصافحنا مبتسمًا وانصرف بكل هدوء ودون منغصات.
وبعد سنوات قابلته في شاطئ جولدمور، ونحن نسبح وتبادلنا أطراف الحديث بشفافية.
رافق عملي في السلك التربوي وتنقلت بين المدارس الثانوية للمعلا والتواهي، وكثير من طلابي اليوم في مواقع هامة في الدولة والمعارضة، في فترة كنت مديرًا لثانوية التواهي، كان أبناء أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية والوزراء والمسئولين طلابًا فيها، دون تمايز ولا فوارق بينهما وبين ابناء البسطاء من الطبقة العاملة، كعمال النظافة، وهناك مواقف مشرفه للبعض نذكر منها. 
تمت دعوتي لحفل زواج إحدى الزميلات في المعلى، وبعد انتهاء الحفل صادفت فخامة المغفور له فرج بن غانم وزيرًا للتخطيط حينها الذي ترجل من سيارته ليصافحني قائلًا: ابنتي تشكرك كثيرًا، وتشكرون على الدور التربوي والتعليمي الذي تقدمونه، ونقلني واسرتي بسيارته للبيت.
حررت ذات يوم استدعاء للرئيس البيض الأمين العام للجنة المركزية كولي أمر الحضور للمدرسة، وحضر ووقع التزام، وفخامة الاخ سعيد صالح وزير أمن الدولة ثم محافظًا لعدن كان زائرًا مثابرًا للمدرسة لمتابعة أولاده، وعلي عنتر وعلي شائع وعشيش والبيشي، كل هؤلاء يحضرون للمدرسة دون ضجة وأطقم وحراسات وخزعبلات هذه الأيام المثيرة للسخرية، حتى بعد 13 يناير المشئوم، كانت هناك دولة يمكن أن تقابل فيها أي مسئول، وكانت القيادة تلتقي بالقواعد في المسرح الوطني، ونقاش حاد وشفاف وصريح، بل نقد جارح يقدمه البعض بحضور الأمين العام للحزب الحاكم حينها.
دولة تسير بخطى هدم الفوارق والتمايز، وكانت هناك تحديات، قالها الشهيد علي عنتر في محاضرته في كلية التكنلوجيا، البعض يحن لقريته وقبيلته، يقصد هنا العقلية العصية على التغيير والاندماج في المجتمع المدني، عصية على تجاوز ارثها، محاطة بسياج التخلف والتعصب، صعب عليها  تقبل مسار هذا التغيير ثقافيًا وفكريًا وقناعة، لكن سياسة الدولة كانت تفرض تقليص الفوارق بين الناس، والمسئول موظف وتوجد رقابة ومحاسبة، في نسبة لا باس بها من العدالة الاجتماعية في الظلم والحق، دولة فتية تحاول مواكبة العصر والنهضة، تقابلها تحديات وعقبات في مجتمع قبلي وعشائري وارث موغل بالعصبية والتمايز العرقي ما عدا عدن التي كانت قد تجاوزت تلك العقبات لمجتمع مدني متعايش.
صراع بين مسار الحداثة والنهضة، والتخلف والعصبية، بين الانفتاح والانغلاق، تفجرت مواقف، وتوالت منعطفات الصراع، حاولت قوى الحداثة أن تقاوم، لكن يبدو أن العصبية المتخلفة والقروية والارث التاريخي كان أقوى، وكانت 13 يناير المشئوم هي الضربة القاسية التي راح ضحيتها كم هائل من قوى الحداثة، وتعمقت العصبية والمناطقية، ازدادت التحديات، وكانت الوحدة اليمنية إحدى المخارج، واذا بها تضاعف من تلك التحديات، بتحالف القوى التقليدية في الشمال والجنوب لضرب الحداثة بدعم الجوار، وما زال الصراع قائمًا.
المؤسف أن الكفة ما زالت ترجح لصالح  العصبية والتخلف والعقلية المقيدة بالإرث التاريخي العقيم على التغيير والنهضة ومواكبة العصر، بأدواتها المسيطرة على المشهد اليوم، بل و يقدمون أنفسهم رهان للمستقبل، بأدوات اكثر تخلفا وعصبية وانغلاق، أدوات مذهبية ومناطقية وتعصب مقيت، في تصادم مع تطلعات وطموحات الناس وآمالهم في التغيير والدولة الضامنة للمواطنة، والحريات والشفافية.
المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى