أسباب انهيار الريال اليمني.. وما وسائل استقراره؟! (تحليل خاص)
انقلاب جماعة الحوثي المسلحة شكّل ضربة قاضية للاقتصاد اليمني ليبدأ مسلسل انهيار الريال. يمن مونيتور/ خاص/ من ليث الشرعبي
صمد الريال اليمني أمام العملات الأجنبية خلال الثلاثة الأعوام (2012- 2013-2014) بفعل السياسات النقدية التي انتهجها البنك المركزي اليمني، والاستقرار السياسي الوليد بفعل ثورة 11 فبراير/شباط2011.
كان سعر الدولار الأمريكي الواحد يساوي 215 ريال يمني، ولأول مرة في تاريخ الجمهورية اليمنية يستقر الريال لثلاثة أعوام متتالية، فقد عاش الريال قبل 2011م مرحلة تدهور مستمرة، ولكن ببطء نتيجة سياسات الفساد التي انتهجها نظام الرئيس الراحل علي عبدالله صالح.
شكل انقلاب جماعة الحوثي المسلحة في اليمن ضربة قاضية للاقتصاد الوطني الهش أصلا، ليبدأ مسلسل انهيار الريال، لكن ذروة انهيار العملة الوطنية بدأ مطلع العام الحالي 2018م، وتوقف قليلا ليعود بقوة رغم كل الإجراءات المعلنة.
* سياسة الفيد الحوثية
انقلبت جماعة الحوثي على السلطة الشرعية في سبتمبر/أيلول 2014م، وكجماعة مسلحة تقتات على النهب والفيد وأموال الناس، وتفتقر لأدنى خبرة في إدارة الدولة، انتهجت سياسات كارثية لتدمير الاقتصاد الوطني، وكانت المحصلة تبديد الاحتياط النقدي، ونهب نحو 5.2 مليار دولار، إضافة إلى ترليون ريال يمني.
وفي الوقت الضائع، نقل الرئيس اليمني هادي البنك المركزي من صنعاء إلى العاصمة اليمنية المؤقتة عدن، وتحديدا في سبتمبر/أيلول 2016م حيث أصدر قرارا جمهوريا قضى بإعادة تشكيل مجلس إدارة البنك المركزي من سبعة أعضاء برئاسة منصر القعيطي كمحافظ للبنك، ونقل مقر البنك الرئيس من صنعاء إلى عدن.
استغل الحوثيون القرار للتنصل عن دفع رواتب الموظفين، والاكتفاء بتحصيل الإيرادات المالية وإخفائها، ولم تكن القيادة الجديدة للبنك المركزي بحجم المهمة، فالمرحلة كانت تقتضي تعيين شخصيات قوية قادرة على العمل لا التنظير، ولهذا ظل البنك منقولا إلى عدن اسما، بينما معظم الإيرادات الحكومية تصب إلى صنعاء.
وفي ظل وضع مختل كهذا، كان الريال اليمني هو الضحية الأول ومعه الشعب، حيث بدأ سعر العملة المحلية بالانخفاض تدريجيًا أمام العملات الأجنبية، وكانت بداية الانهيار الكبير للريال اليمني في يناير الماضي، حيث وصل سعر الدولار الواحد إلى 510 ريال يمني.
حينها، ناشدت الحكومة اليمنية، دول التحالف العربي التدخل. وكتب رئيس الوزراء، أحمد بن دغر، في 16 يناير/ كانون الثاني 2018م، مقالا قال فيه: “إن كانت هناك من مصالح مشتركة بين الحلفاء ينبغي الحفاظ عليها، ترقى إلى مستوى الأهداف النبيلة لعاصفة الحزم، فإن أولها وفي أساسها إنقاذ الريال اليمني من الانهيار التام، الآن وليس غدا”.
ولوح بن دغر بتقديم الاستقالة، قائلا: “فإن كان لدى الأشقاء من ملاحظات حول أداء البنك المركزي أو الحكومة فإنني أقولها بوضوح لفخامة الأخ الرئيس، الشعب اليمني أبقى، وإنقاذ اقتصاد ينهار أولى”.
استجابت الحكومة السعودية للمناشدة اليمنية، ووجه العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز في 17 يناير 2018م، بإيداع مبلغ ملياري دولار أمريكي كوديعة في حساب البنك المركزي اليمني.
وبمجرد إعلان خبر الوديعة السعودية رسميًا، ارتفع سعر الريال اليمني مباشرة أمام العملات الأجنبية، وأصبح سعر الدولار الأمريكي الواحد يساوي 410 ريال يمني بعد أن وصل إلى 510 ريالا.
أخلدت الحكومة اليمنية إلى النوم العميق إلى درجة أن وسائل إعلام تحدثت عن تأجيل الوديعة السعودية، ولم يقم الجانب اليمني باستكمال الإجراءات الإدارية والمصرفية بسرعة للاستفادة من الوديعة السعودية، الأمر الذي انعكس سلبًا على سعر الريال وبدأ بالانخفاض تدريجيا، واستقر الريال لفترة أمام الدولار عند 485 ريال مقابل الدولار الواحد.
* مفاجأة الرئيس هادي
لم يتخذ البنك المركزي أي خطوات فعلية لتفعيل الوديعة السعودية واستغلالها الاستغلال الأمثل، وسط أنباء عن استياء محلي وخارجي من أداء قيادة البنك التي لا تمتلك رؤية واضحة للتعامل مع الوضع، وكانت المفاجأة أن الرئيس هادي أصدر في فبراير 2018م قرارًا جمهوريًا بتعيين محمد زمام محافظًا للبنك المركزي.
كان هادي قد أقال زمام من منصبه كوزير للمالية على خلفية اتهامه بالتواطؤ مع الانقلاب، وأرجع البعض تعيينه مجددًا إلى ضغوط دولية كون زمام على علاقة جيدة مع الحوثيين، ومهم -بنظر الخارج- وجود شخص على تواصل مع الانقلابيين خلال هذه الفترة كي يتمكن من ربط صنعاء وعدن بنظام واحد، وينهي حالة الانقسام القائمة بين البنكين والتي تمثل عاملًا من عوامل تدهور العملة.
رحب السفير السعودي في اليمن بقرار تعيين زمام، وكانت التوقعات أن يستقر الريال لفترة أطول خصوصًا وأن الحكومة اليمنية أعلنت نهاية يوليو المنصرم نجاح أول عملية تصدير للنفط الخام، ومعروف أن الحكومة اليمنية تفتقر لأي إيراد بالعملة الصعبة منذ الانقلاب الحوثي، وإعادة تصدير النفط من شأنه رفد الخزينة العامة بعملة صعبة ودعم استقرار العملة اليمنية.
وفجأة هرول الريال اليمني أمام العملات الأجنبية وبصورة غير مسبوقة حيث تراوح سعر صرف الدولار الواحد ما بين 540 إلى 550 ريال يمني، وهذا رقم قياسي لأول مرة يحدث، فما الذي حدث؟!
* تعددت الأسباب
ثمة أسباب محلية وأخرى خارجية وراء هذا الانهيار الكبير للعملة، ومن العوامل الخارجية قرار السلطات السعودية في يوليو الماضي منع خروج سيارات الدفع الرباعي وتحديدا “الهيلوكسات” و”الشاصات” إلى اليمن، وهي نوعيات مناسبة للطرقات اليمنية وتستخدم بكثرة، وخروجها إلى اليمن يساعد في تدفق سلع كثيرة من الأسواق السعودية إلى اليمن مما يحد من زيادة الطلب على السلع في الداخل.
وبمقدور السعودية أن تشترط على سائق السيارة العودة بها في حال كانت هناك مخاوف أمنية من تسرب هذه النوعيات من السيارات إلى الحوثي واستخدامها في أغراض عسكرية، رغم أن السوق اليمني مغرق بهذه النوعيات، وليس كل المغتربين اليمنيين العائدين يمرون من مناطق سيطرة الحوثي، بالمناسبة.
وأبرز عامل محلي ساهم في تدهور الريال، هو موافقة اللجنة الخاصة بتحديد سعر صرف بيع الدولار الخاص بفتح الاعتمادات لاستيراد المواد الغذائية الأساسية، في اجتماع لها الشهر الماضي (يوليو/تموز) برئاسة المحافظ محمد زمام، على سعر صرف بيع الدولار لشهر يوليو بقيمة 470 ريال يمني، أي بفارق 30 ريال عن سعر السوق يومها، وهذا الفارق الضئيل بين السعر الرسمي وسعر السوق أعطى مؤشرًا سلبيًا في السوق.
وهناك عوامل أخرى مثل طبع عملات بدون غطاء، ومضاربة الصرافين بالعملة، وتقاضي المسئولين اليمنيين رواتبهم بالدولار، ومنع جماعة الحوثي من تداول العملة الجديدة في مناطق سيطرتها، وغيرها ساهمت في تدهور الريال، والسؤال الآن: هل بمقدور الحكومة اليمنية إيقاف هذا التدهور في قيمة الريال؟!
* حلول مستمرة
تدخلت السعودية والحكومة اليمنية لوضع حد للتدهور القائم للعملة المحلية، ومن هذه الإجراءات إعلان الحكومة السعودية الشهر الماضي على لسان سفيرها في اليمن محمد آل جابر، عن بدء حكومة بلاده في دعم البنك المركزي اليمني في تغطية دعمه لاستيراد التجار اليمنيين القمح والأرز والسكر والحليب وزيوت الطعام، من الوديعة السعودية.
ولم تكتفِ السعودية بهذه الخطوة، وأعلنت الأسبوع الماضي عن منح اليمن، مشتقات نفطية بقيمة 60 مليون دولار شهريًا لتشغيل محطات الكهرباء. ومعروف أن استيراد المشتقات الخاصة بمحطات الكهرباء يكلف الحكومة اليمنية مبالغ كبيرة من العملة الأجنبية، ومن شأن هذه الخطوة أن توفر عليها الكثير من العملة الصعبة وتقليل الطلب على الدولار محليا.
وحاولت الحكومة اليمنية اتخاذ جملة من التدابير، فقد أقر مجلس إدارة البنك المركزي نهاية يوليو المنصرم سحب الدفعة الأولى من الوديعة السعودية لتغطية الاعتمادات البنكية للمواد الأساسية بمبلغ وقدره 20 مليون و428 ألف دولار.
وناقش مجلس الوزراء الأربعاء الماضي، مشكلة التدهور المستمر للعملة الوطنية، وشدد على ضرورة اضطلاع الأجهزة المعنية بدورها لإيقاف المضاربة بالعملة المحلية، وأن “تعمل وزارة المالية على اتخاذ سياسة مالية تقشفية تساهم في تعافي الريال اليمني”. ويجب وضع خطين تحت كلمة تقشف!
وأغلقت محلات الصرافة غير المرخص لها في عدن ومأرب، وسط مخاوف من تحول السوق إلى تحت الأرض ويكون أكثر انفلاتًا. وآخر الحلول الرسمية مساء الخميس الماضي، حيث أعلن البنك المركزي اليمني التدخل المباشر لتصحيح قيمة الريال اليمني أمام العملات الأجنبية بعد أن قادت المضاربات التي شهدها سوق الصرف إلى تراجع قياسي غير مسبوق للعملة المحلية.
وبموجب هذا القرار سيقوم البنك المركزي بضخ دفعات من العملة الأجنبية لتلبية حاجات السوق منها وعلى الأخص طلبات القطاع التجاري وبما يحقق وقف المضاربات وضمان استقرار الأسعار.
وأكد البنك عزمه على إبقاء تدخله المباشر مفتوحًا وتطوير آليات هذا التدخل حتى تعود أسعار الصرف إلى مستوياتها الواقعية.
ورغم هذه الجهود، إلا أنها باءت بالفشل حتى اللحظة، فلم يعد الدولار إلى سعره السابق فقط توقف الانهيار مؤقتًا، ووحدهم المواطنين والموظفين المتضررين من انهيار العملة، فالمواطن متضرر لأن انهيارها تسبب في ارتفاعات سعرية مخيفة في الأسواق، ولن تعود أسعار السلع والخدمات لطبيعتها وإن انخفض الدولار.
والموظف العادي في المحافظات المحررة متضرر أيضا لأن راتبه فقد ثلثي قيمته، فالموظف الذي راتبه ستين ألف ريال مثلًا كان يساوي 300 دولار تقريبا قبل الانقلاب الكارثي، وراتبه اليوم بحدود مئة دولار، وأما الموظف الحكومي في مناطق سيطرة الحوثي فراتبه كله مفقود في بطن “المسيرة القرآنية”.
* ماذا بعد؟!
أخطر ما في الأمر اليوم هو عدم وجود ثقة في كل ما يصدر عن الحكومة اليمنية وقيادة البنك المركزي، فقد ترسخت قناعة بأن المسؤولين اليمنيين الحاليين يقولون كلامًا يندرج في باب التنظير، لأنه غير متضررين من انهيار الريال طالما أنهم يقبضون رواتبهم بالدولار، ويعيش غالبيتهم خارج البلاد.
وطبيعي انعدام الثقة في الجانب الحكومي في ظل توالي فضائح الفساد والتعيينات، ويكفي للتدليل على حجم الفساد أن راتب محافظ البنك المركزي اليمني أضعاف مرتبات محافظ الفيدرالي الأمريكي، ورئيسة صندوق النقد الدولي التي ترسم مسارات الاقتصاد العالمي!
يقول الخبير الاقتصادي رئيس مركز الإعلام الاقتصادي مصطفى نصر: “لا يوجد ما يبرر هذا التراجع سوى شعور كبار المضاربين بالعملة أن إجراءات البنك المركزي الأخيرة لن تحل مشكلة العملة الصعبة وأزمة السيولة”.
ويرى الخبير المالي والاقتصادي أحمد أحمد غالب أن الوديعة السعودية لن تصمد طويلا أمام متطلباتنا ونفقاتنا الحتمية من العملات الأجنبية، “وسيصبح البنك المركزي مكشوفا عاجزا عن أي فعل إذا لم نحسن إدارتها واستخدامها في تهدئة السوق وتعزيز الثقة بالبنك المركزي والتدخل في أوقات الاضطرابات والتذبذبات غير المبررة اقتصاديا”.
ويؤكد غالب في منشور له على صفحته في “فيسبوك”، أن ما يقوم به البنك المركزي من تدخل -إن جاز تسميته كذلك- عبر آلية تمويل الاستيراد هو العودة إلى سياسات الدعم وآلياتها الفاسدة التي تهدر المال العام ولا تصل إلى المستحقين.
مضيفا: اليوم السوق منفلت ولا تملك الدولة أي أداة من أدوات التحكم بالسوق يمكن بواسطتها أن تحدد أسعار السلع وتراقب التلاعب وتعاقب من يرتكبه، وفي هذه الأوضاع والظروف فليس من المنطقي التدخل بآليات مشوهة في سوق تسودها الفوضى والانفلات وعدم الانضباط.
ويرى أن “الأجدى والأسلم للبنك المركزي هو التدخل بشكل مباشر ببيع العملة للبنوك المستوردة والممولة لاستيراد السلع الأساسية وعن طريق المزايدة وبآليات شفافة تفاديًا لأي عمليات فساد تصاحب هذا التدخل بسعر محدد سلفًا لا يعكس قيمته السوقية وغير قابل الاستمرار.
ويؤكد غالب وهو مسئول حكومي سابق في وزارة المالية، أن الجهود لن تكون مثمرة والإجراءات ذات فاعلية إذا بقي البنك المركزي مسيطرا، والمؤسسات المالية منقسمة، والشعب تسحقه المعاناة دون مبالاة من الأطراف المتحاربة.