كتابات خاصة

النافذة الزجاجية

فكرية شحرة

 
تناهى إلى مسامعي صوت الارتطام بقوة واعداً بالعودة كل صباح.

منذ أيام.. فيما شمس الصباح تغازل وجه الأرض العابس بعد ليل مظلم.

في ذلك الوقت المبكر وما زال البرد يذرف دموع الندى على أوراق شجرة مجاورة لنافذتي الزجاجية، كنت أفتح ستائر النافذة ليطالعني نفس المنظر لعصفور صغير جميل اعتاد لأيام متوالية الظهور في نفس الموعد.
كان يرتدي صدرية من الريش الأصفر الباهت وعلى جناحيه رداء أسود كلون عينيه الصغيرة اللامعة، كان يبدو وقوراً في كبرياء بحلته المتناقضة الألوان كمايسترو ضل عن فرقته العازفة.
يظل طوال فترة الصباح وحتى وقت متأخر من شروق الشمس يحدق في نافذة الجيران المقابلة كعاشق ينتظر إطلالة محبوبته، يتهادى به غصن الشجرة كما تتهادى به أفكاره العصفورية الصغيرة، وما يلبث أن يطلق لجناحيه العنان محاولاً اختراق نافذة الزجاج كمن أضناه صبر الانتظار فقرر الاقتحام، فترده خائبا تلك النافذة المهجورة وكأنها تستأثر بسر خاص لا يسمح للكائنات الصغيرة أن تطلع عليه، إلا أن عناد المتلهف يدفع جناحيه الضعيفين للمحاولة مرة تلو أخرى وفي كل مرة يصده الرفض الصامت من نافذة زجاجية أغلقها النسيان..
وأنا ممسكة بمصراعي نافذتي أشفقت على ذلك العصفور؛ ترى ما الذي يدفعه لكل هذا الإصرار في اقتحام نافذة لا تقل إصراراً عنه تدفعه بعيدا عنها في صلابة زجاجية حتى تخور قواه ويضعف رفيف جناحيه!؟
هل لأن صورته الجميلة عكستها عيون النافذة الزجاجية فعشق ذاته فيها..؟
أم لعله تخيل عصفورة أسيرة تهوي بنفسها عليه تناشده الرفقة والصحبة وقد أضنتها الوحدة والتفرد؟! أم لعل البرد قد أثخنه هناك بعيداً وحيداً عن جو الحجرة الدافئ وحميمية المكان فتمنى أن يحظى ببعض الدفء ولو كان مستحيلاً !؟ تحجبه نافذة لا تشرع مصراعيها للغرباء؛ وإن كان الغريب هنا قلب عصفور أنيق، إلا أنها قد لا تفتح من الخارج إلا كسراً وهو أضعف من أن يكسرها بأمنياته وأحلامه في الوصال، وستفقد دفئها وجمالها إن حطمتها إيدي القسوة والعنوة.
طال انتظاري واقفة أتأمل نهاية لهذا المشهد؛ لا النافذة فتحت من الداخل ولا هو استطاع اقتحامها كسراً.
وأنا أمعن التحديق بعيني العصفور الصغيرة التي واجهت تلصصي.
شدني إليها ذلك البريق العنيد الذي يشع منها، وكأنما استمد عناده من شفقتي ارتفع محلقاً لآخر مرة وارتطم بجدار النافذة المهجورة..
تناهى إلى مسامعي صوت الارتطام بقوة واعداً بالعودة كل صباح.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى