تسلل الأثر الحروفي إلى الشعر، وضجت القصائد بتقليب الحروف ومساءلتها دلالياً والإفادة من رمزيتها
في فصل ختمت به كتابي “المرئي والمكتوب – دراسات في التشكيل العربي المعاصر”، الشارقة 2010، تحدثت عن مستقبل المقترحات التشكيلية التي عددتها في كتابي محاولات للخلاص من إشكالية الأسلوب والرؤية، وتشظيهما وتباعدهما بسبب تغريب المؤثر، ومحاولة التأصيل البيئي والمحلي والتراثي.
وقد توقفت عند مقترحات التشكيليين العرب ومحاولاتهم عبر رحلة المنجز الفني المتحققة أن يسربوا أو يهربوا الجوانب الإشكالية في الرؤية والأسلوب، عبر صنع مقترحات بديلة، هي في جوهرها انعكاس لتلك الأسئلة في الحقيقة..
المقترح الحروفي مثلاً لا تمكن قراءته كاستلهام لجماليات الحرف العربي واستضافة وجود الحرف في اللوحة بعيداً عن دلالته الكتابية أو معناه، ولا الاستعانة به كحلية أو زينة، بل لإثراء اللوحة بإيحاءات تراثية تمثل البحث عن حافز روحي يضيف للعمل الفني المعاصر بعداً فكرياً، يقلل من نزعة التلوين أو حرفة الرسم الخالصة المجردة من المؤثرات الثقافية.
الموازنة الممكنة: هاجس الحروفية العربية
لعل الهاجس الأساس في المقترح الحروفي هو التوازن بين المؤثر الأسلوبي الغربي ممثلاً بالتجريد وهيمنته على الأعمال التشكيلية الحديثة، وبين العودة إلى المؤثر التراثي وما تختزنه المأثورات البصرية العربية والإسلامية – رسوم الواسطي للمقامات في طليعتها – من جماليات يمكن تغذية اللوحات والأعمال التشكيلية بها كرافد لتقوي خطاب اللوحة واستراتيجياتها، وصلتها بالمتلقي أيضاً.
ومما يقوي ظني ذاك بالموازنة كدافع للمقترح الحروفي كون روادها الأوائل تتلمذوا في الغرب، ونهلوا من مدارسه الفنية واتجاهاته التشكيلية الحديثة. وعادوا إلى أوطانهم محملين بثقل المؤثرات الغربية، لكنهم بمقترح الحروفية قدموا ما يشبه الاعتراف بالحاجة إلى تأصيل العمل الفني محلياً، وعدم تغريبه كلياً.
لقد كان الجانب العرفاني في الحروفية وربطها بالمعتقد التصوفي قد حدّد استخدامها، ولم تشع كوسيلة تعبيرية إلا في ملتقيات وجماعات محددة من النخب التشكيلية، في العراق مثلاً جميل حمودي وشاكر حسن آل سعيد ومديحة عمر ورافع الناصري وضياء العزاوي وسواهم من فناني جماعة البعد الواحد التي تأسست مطلع السبعينيات، ومن خارجها.
لذا لم يتسع أثر الحروفية كما قُدر لمقترحات أسلوبية أخرى، وظل استخدامها التقشفي والروحي محصوراً في ثلة من الرسامين ذوي الرؤى الروحية والمشغلات الثقافية الخالصة.
إن مهمة التحديث في الرسم تبدو لي أحياناً – خلاف الشعر والقصة مثلاً – مهمة فردية، يبحث فيها الرسام داخل عمله وبدافع وعيه الخاص، ليصل إلى قناعة ذاتية. وهذا يفسر مقترح شاكر حسن آل سعيد مثلاً في الدعوة إلى البعد الواحد، وسلسلة رسوم ضياء العزاوي للمعلقات، أو تجارب القريشي وبلكاهية في الرسم على مواد جلدية أو استخدام الرقش، وكذلك تفجير جماليات الجدران واللجوء إلى التلصيق، والعودة أحياناً إلى الطبيعة البشرية ضداً للتصنيع والتقنية، في ما يشبه إحياء الفن البدائي أو الوحوشية والفطرية، والاستعانة بطاقة التجريد اللوني في السطح التصويري لتأكيد الطابع الروحي للحروفية.
وقد تسلل الأثر الحروفي إلى الشعر، وضجت القصائد بتقليب الحروف ومساءلتها دلالياً والإفادة من رمزيتها. كما كان الشعراء الصوفيون يفعلون بإيراد الحروف في قصائدهم وإن تحددوا بكينونتها الدينية، كنظرهم للنون مثلاً على أنها نون الوجود المأخوذة من الفعل كنْ. وكذلك تأكيدهم على النقطة لاستدلالهم بها على وحدة الوجود والحلول الإلهي في الأشياء .
يقول الحلاج في هذا الصدد، وهو أثر مرجعي كبير على شعراء الصوفية كما على رسامي الحروفية المعاصرين: (النقطة أصل كل خط، والخط كله نقط مجتمعة. فلا غنى للخط عن النقطة، ولا للنقطة عن الخط، وكل خط مستقيم أو منحرف فهو متحرك عن النقطة بعينها. وكل ما يقع عليه بصر أحد فهو نقطة بين نقطتين. وهذا دليل على تجلي الحق من كل ما يشاهَد، وترائيه عن كل ما يعايَن. ومن هذا قلت: ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله فيه).
وهكذا غدا للنقطة وجودها المعلن في الأدبيات المعاصرة والحديثة توسعاً عن هذا التفسير، والربط بين الخط والعالم، وبين النقطة وجزئيات الكون وحياتها.
وأحسب أن ذلك وسواه من إشراقات الصوفيين ومواجدهم ونفورهم من الواقع واعتراضهم على التفسيرات الدينية الرسمية والسائدة، قد شجع على استلهام العالم الحروفي. وبتشجيع من فعل الرسامين العالميين قبل سواهم من العرب والمسلمين. يتضح هذا في الإفادة من وجود البنية اللغوية للحرف في رسوم ماتيس وبول كلي خاصة. وأفاد الشعراء العرب أيضاً من تأملات الشعراء الغربيين للحروف ودلالاتها الرمزية، حين تأملوا الحروف العربية وأدرجوها كموجودات مستقلة عن المضمون أو الهيئة النصية للقصيدة، وحاضرة بهيئتها السورية البصرية، مستقلة عن الوجود الجملي والمعنوي. تجارب لأدونيس في مفرد بصيغة الجمع ومحمد بنيس في دعوته المبكرة للكتابة بالخط المغربي مثلاً.
مآزق وتحديات
لكن الحروفية كأكثر المقترحات ديمومة وتواصلاً تعاني بضع أزمات موضوعية وذاتية؛ منها ما يتعلق بطبيعتها المرتبطة بالتراث، ومزجها ذلك بالتيارات الغربية القائمة على التجريد، وكسر هيمنة اللوحة التقليدية في آن واحد بخصوص اشتراطاتها الأكاديمية ومقتضيات حداثتها.
تكمن أكبر مآزق الحروفية في تجاهلها القيمة الفنية للخط وتجويداته الممكنة، فتعطي لنفسها سلطة تحريره من فخامته وهيبته وقدسيته، ومن قواعده القارّة. هذا الصنيع غير المعلن صراحة أفقد الحروفية جمهور الخط التقليدي وفنانيه. كما عزل الحروفية عن التجويد المستفاد في الهيئة الفنية أو التشكيلية للحرف المكتسبة من وجوده الزخرفي في المخطوط.
كما تتعمد التجارب الحروفية تذويب الجانب المعنوي للحرف، وبذا تلجأ إلى تغريب هيأته أو تسطيحها، وتركيز وجودها التزييني على السطح التصويري كعنصر بنائي فاقد لهويته كحرف.
وبتوسعها نحو شعبويات الخط، وانفتاحها على تداوليته اليومية خارج الزخرف الخطّي المكرس، كالجدرانية التي تبناها شاكر حسن آل سعيد واهتمامه بجماليات الجدار، وما يحمل من زينة خاصة قد لا تستجيب للخط كفن.. وتستبدله بالشعارات والعبارات العادية، وحتى ما يكون وسخاً أو لطخات شائهة عدّها الفنان الراحل جزءاً من جماليات مضادة تستلهم قيمتها من مغايرتها وشعبيتها. نذكر هنا ما قدمه من دراسة معمقة ومهمة عن كشك عمان العفوي الذي رآه في إحدى الساحات الشعبية، وتأمله باعتبار أصباغه وكتاباته وسطحه عموماً جزءاً من جماليات جديدة مغايرة جديرة بالارتقاء للأعمال الدالة على التبدل الحسي في تلقي الفنون.
وكذلك الغرق في حمولة التجريد وفضاءاته ورمزيته، وهي حمولة مستجلبة من حداثة تبدو متناقضة مع الجذر القصي للحروفية في تشكلها النظري الأول، ومناسبة للخوض في معميات وألغاز، قربت اللوحة الحروفية من التجريد التام غالباً.
إن أعمال الحروفيين الأوائل المجودين في هذا المجال تجيب عن كثير من تساؤلاتنا عن مصير الحروفية ومستقبلها… أعمال امتدت على رقعة واسعة من التشكيل العربي في المغرب والمشرق.
أعمال لنجا المهداوي ورشيد القريشي وجوليانا سيرافيم وكمال بلاطة ومنى السعودي وخالد خريس ومحمد المليحي وإيتيل عدنان ومحمد شبعة وعبد اللطيف الصمودي… وعشرات غيرهم.
أسئلة الحرف بين كن ونكون
تستدعي التحديات القائمة للمقترح الحروفي الانتقال من (الكينونة) اللازمة التي يمثلها الفعل (كن) بجبريته ونقطة الوجود فوق صحن نونه العميق، وبين (نكون) التي تحمل عنصر الاختيار (للكينونة الممكنة)… وبين هذين الفعلين وحرف النون المتكرر والنقطة المكتظة بالدلالة سيتعين التحول، والانتقال إلى دنيوية أشد وضوحاً في اللوحة الحروفية التي قد تجد مرجعيتها في واقع ضاغط أقرب من غنوصية تعبدية، وباطنية مصدرها التصوف ونزعاته الجوانية.
ولا ندري إذا كان الرسامون الذين دعوا إلى إحياء الطاقة السيمولوجية في محيطهم وبيئتهم لا يزالون – رغم التلويث والعنف والتشويه – يرون جمالياتٍ ما في تلك الإشارات التي يمتلئ بها العالم حد الاختناق، أو يقدرون على استخلاصها من لجة البشاعة التي يتسم بها الخارج المدمر بالحروب والإرهاب والعنف الأعمى والتمييز، لكننا نراهم – كما في تجارب بعض الرسامين الذين درستهم في كتابي – يواصلون محاورة المحيط وثقافته، والبيئة ودلالاتها، والواقع ورموزه، والماضي وإشاراته الحية.
سؤال يستحق الإجابة والنقاش يهم من جاء من الرسامين بعد تجارب الحروفيين الرواد، مثل هناء مال الله وعباس يوسف وراشد دياب ومحمد فاضل وآمنة النصيري وطلال النجار وعبد الرحمن الغامدي وكريم رسن وفاخر محمد وغسان غائب وعمار داود وتاج السر حسن وياسر الجرادي وغيرهم.
نقلا عن المنبر العربي الثقافي ضفة ثالثة