الحوثي أو الحوثية ليست المرض، هو أو هي بالأحرى العَرَض الذي يشير إلى جذور مرضنا الاجتماعي والثقافي والطائفي والتعليمي.
لم يكن الحوثي في حقيقة الأمر مخطئاً وحسب، هذا نصف الحقيقة، نصف الإجابة، وربما نصف الكأس الممتلئ. لا تكتمل الحقيقة، ولا يمتلئ كأس المرارات، إلا إذا نظرنا إلى النصف الآخر من هذه الكأس، التي يتجرعها اليمنيون منذ سنوات طويلة.
الحوثي أو الحوثية ليست المرض، هو أو هي بالأحرى العَرَض الذي يشير إلى جذور مرضنا الاجتماعي والثقافي والطائفي والتعليمي.
لم يأت الحوثي من الفراغ، ولم يتمخض عنه العدم، إنه الابن الشرعي لإخفاقاتنا السياسية والاقتصادية، إخفاقاتنا في تحقيق أهداف ثورة سبتمبر 1962، إخفاقاتنا في التخلص من الموروث الاجتماعي والقبلي والمذهبي والطائفي، الموروث المتهالك الذي نحرص عليه حرصنا على رهن حياتنا اليوم لأقوام عاشوا في سالفات القرون.
لقد فشلت الأنظمة الجمهورية المتعاقبة – في اليمن- في تكريس قيم الجمهورية في البلاد، بعد أن خلع «الإماميون» الجُبَّة والعمامة، ولبسوا ربطة عنق أنيقة، وجاؤوا إلى صنعاء في 1968، ليحكموا في ثوب جمهوري، وبعقلية ملكية، متغلغلين باسم الجمهورية، في أجهزة القضاء والأوقاف، والجيش والأمن، وداسين رجالهم في المراكز الحساسة في السلكين الدبلوماسي والإداري للدولة، تاركين الفرصة لرئيس كي يقتل رئيساً، ولنظام لينقلب على نظام، ولحزب سياسي ليشتبك مع آخر، ولقبيلة لتضرب أخرى، فيما كانوا يتمكنون أكثر وأكثر من عصب الدولة، إلى أن حانت لحظة 21 سبتمبر 2014، يوم أن دخل الحوثيون صنعاء، ليجدوا أبناء عمومتهم من تلك العناصر الإمامية ترحب بهم، وتفتح لهم أبواب العاصمة، وتسير الأمور بسلاسة منذ اليوم الأول للانقلاب.
وفي هذا السياق، يحسن القول إن ترك مناطق شمال الشمال في اليمن فريسة للفقر والجهل والمرض – وهو الثالوث الذي جاءت الثورة للتخلص منه – جعل هذه المناطق منجماً كبيرا للانتهازيين الدينيين الذين وظفوا فقر وجهل تلك المناطق لصالح أهدافهم السياسية.
تصوروا أن مناطق واسعة في صعدة (معقل الحوثيين) لم يدخلها التعليم النظامي بعد الثورة، بناء على رغبة مشتركة لدى بعض الأسر التي كانت تستفيد من وضع كهذا! لم تكن الأسر «وريثة عرش الإمامة»، في اليمن ترغب في تعليم ما بعد الثورة على أساس أنه تعليم جمهوري يناوئ قيم الإسلام الصحيح، الأمر الذي أبقى تلك المناطق تحت السيطرة الروحية والمذهبية لعدد من الانتهازيين الدينيين الذين جاؤوا من أسر بعينها ليأخذوا زكوات الناس، كما أن المشيخات القبلية ـ مع تلك الأسر- كانت لها مصلحة في تجهيل الناس ليكونوا مجرد مقاتلين أشداء، لا يجيدون غير الحرب، حيث ظلت قرى بأكملها تعتمد على مخرجات ومدخلات تعليم ديني، توفره لهم تلك الأسر ذات الامتيازات الدينية في الأرياف اليمنية، وهذه المدخلات للأسف كانت مدخلات مناوئة لتوجهات النظام الجمهوري الذي كانت تعمل في إطاره.
كما أن الحوثي عزف على المظلومية التاريخية لأبناء تلك المناطق «المجهَّلة والمهمشة»، وغذى فيها الميل للثورة والثأر من «صنعاء» على اعتبار أنها رمز وسبب الظلم الاجتماعي والاقتصادي والتجهيل، الذي حل بتلك المناطق.
إن محافظات صعدة وعمران وحجة التي يقاتل الكثير من أبنائها اليوم مع الحوثيين، هذه المحافظات هي الضحية وليست الجاني، لأن الحوثي أوهمهم بأنه «المخلص» الذي سيملأ أرضهم عدلاً قبل أن يفيقوا على أرضهم وقد ملئت قتلاً وتشريداً وخراباً.
والشيء الملحوظ أن أسرة الحوثي لم تكن مظلومة ولا مهمشة، على خلاف ما تحاول هذه الأسرة، ومن على شاكلتها، أن تشيع، إن تلك الأسرة وغيرها من الأسر الإمامية كانت جزءاً أصيلاً من الأنظمة التي ظلمت وهمشت تلك المناطق، وتواطأت على إفقارها وتجهيلها، وقد كان حسين الحوثي وهو أول زعماء جماعة الحوثي- كما كان أخوه يحيى- عضواً في البرلمان اليمني، وكانت لوالدهما مكانة دينية واقتصادية، وسلطة روحية على كثير من الأتباع، الأمر الذي مكن الأسرة من جباية الكثير من الأموال باسم الزكاة وغيرها، ومع ذلك ظلت تلك الأسرة ترفع شعار مظلوميتها، ومظلومية تلك المناطق، بل لجأت للتاريخ لترفع شعار المظلومية التاريخية، مع أنه لم يكن في حسبانها الانتصار لتلك المناطق أو حتى للمظلومية التاريخية، بقدر ما كان الهدف توظيف مظلومية أبناء مناطق شمال الشمال و»مظلومية الحسين»، لتحقيق مكاسب سياسية تتجلى اليوم في كون أبناء تلك الأسر في المناصب العليا في سلطة الحوثيين، فيما أبناء القبائل المهمشون يعيشون أوضاعاً أقسى من الفترة التي سبقت قدوم الحوثيين، الذين وعدوهم بـ»بلاد السمن والعسل».
ولعله من الجيد أن نذكر هنا أن تقريراً أعدته لجنة الخبراء الأممية، وصدر قبل أسابيع أكد على أن القيادات الحوثية أثْرت بشكل فاحش، وأشار التقرير إلى مليارات الدولارات تجبيها الجماعة جراء تحويل الاقتصاد اليمني إلى سوق سوداء وتجارة التبغ والمحروقات، بالإضافة إلى إيرادات ميناء الحديدة، في حين لم يتحمل الحوثيون أي مسؤولية إزاء صرف مرتبات الموظفين في المناطق التي تحت سيطرتهم.
بالمجمل. لم يكن الحوثي مظلوما، لكنه وظّف مظلومية المظلومين، لا لينتصف لهم، ولكن ليحل محل من ظلمهم.
وعند الحديث عن مليشيات الحوثي، لا يمكن أن نغفل عن حقيقة أن أي فريق سياسي يمني اليوم لا يستطيع أن يبرئ نفسه من تبعات تقديم الخدمات لها. إذ كان الحوثي أشبه بـ»بلطجي الحارة» الذي استعان به كل أبنائها لضرب بعضهم ببعض، إلى أن انتهى- بذكاء- لتصفيتهم جميعاً وطردهم من الحارة كلها. لكن ذكاء الحوثي كان تكتيكياً ولم يكن استراتيجيا، وهذا الذكاء التكتيكي هو الذي أدخله في الحرب المدمرة، التي سببها انقلابه على ما توافق عليه اليمنيون في مؤتمر الحوار الوطني، ودخوله ضمن لعبة الاستقطابات الإقليمية، الأمر الذي أدخله وأدخل البلاد في الحرب المدمرة التي سببها انقلاب 21 سبتمبر 2015 .
وفي المحصلة يمكن القول إن الحوثي جاء من الخطايا الجسام التي مورست قبله: الظلم الاجتماعي، الفساد السياسي والاقتصادي، إهمال التعليم، إهمال نشر الوعي الثقافي، ترك أبناء مناطق شمال شمال البلاد فريسة لثالوث (الفقر والجهل والمرض) الذي تكرس وتعمق خلال العقود الأخيرة، ولكي يتم التخلص من الانقلاب، ينبغي التخلص من «ثقافة الملشنة»، من ثقافة الاستحواذ والتسلط والأحادية، ونشر ثقافة التعددية والتسامح والشراكة الشعبية والسياسية، وروح المجتمع المدني.
كما يتحتم على اليمنيين الخروج عن مقولات فقهية أفرزتها ظروف معينة في فترات تاريخية محددة، مقولات لم تكن من الدين في شيء، ولكنها فصلت لتناسب هوى طامحين سياسيين فصّلوا لهم أحكاماً وفتاوى فقهية على مقاسات «عروشهم وكروشهم»، الأمر الذي ألغى سلطة الشعب وإرادته الحرة في الاختيار الديمقراطي لحكامه، وهنا يجب مراجعة المقولة الفقهية «حصر الإمامة في البطنين»، لإلغائها تماماً، لأن تحديد السلطة في سلالة معينة أمر مهين للشعب وللقيم وللديمقراطية وللدين قبل ذلك كله. كما أن مناهج التربية والتعليم التي أنتجت ثقافة قبلية في غلاف ديني، هذه المناهج يجب أن تراجع، لأنها مناهج لم تف بحاجة سوق العمل، وإنما وفت بحاجات الحركات الدينية المتطرفة، التي وظفت مخرجات تلك المناهج لصالح مشاريعها التدميرية التي نعيش نتائج تطبيقاتها اليوم.
والخلاصة: الحوثية أقل من دولة، لكنها أعمق من مليشيا. إنها فكرة، وهذه الفكرة نحتاج في مواجهتها إلى وسائل أشمل من وسائل مواجهة المليشيات.
نقلا عن القدس العربي