بدأت الحكاية حين اعتبر الفقهاء في عصر المذاهب الفقهية أن المقصود بـ(ذي القربى) في آيتي الغنائم والفيء هم أقرباء النبي عليه الصلاة والسلام الموجودون في زمنه فقط فيعطون خمس الخمس
بدأت الحكاية حين اعتبر الفقهاء في عصر المذاهب الفقهية أن المقصود بـ(ذي القربى) في آيتي الغنائم والفيء هم أقرباء النبي عليه الصلاة والسلام الموجودون في زمنه فقط فيعطون خمس الخمس، هذا ما وصلنا من أولئك الفقهاء، وكما هو معلوم فإن هناك آراء لم تدون بسبب تأخر التدوين، وهناك مما دوَن ولكنه لم يصل إلينا، وهذا ما يجعلني أقول أن الآية لا تقصد أقرباء النبي وإنما أقرباء المؤمنين جميعا، والشواهد والقرائن والسياق يدل على ذلك، فهل كان هذا الرأي أحد الآراء التي لم تدوَن؟ وسواء كان كذلك أم لا فلا يلزمنا اجتهاد من قبلنا إذا كان اجتهادنا مما يسعه النص.. إلا إن أولئك الفقهاء اختلفوا في سهم (ذي القربى) بعد وفاة النبي بعد أن اعتبروا إن مسمى (ذي القربى) لا ينطبق إلا على من كان في زمنه فقط، فقال الشافعي (ت 204هـ) ينصرف ذلك السهم بعد موت النبي إلى الذرية، والذرية في القرآن وفي اللغة مصطلح يختلف عن مصطلح ذي القربى في الدلالة، ويقصد بالذرية ذرية بني هاشم، وأضاف معهم ذرية بني المطلب، أما أبو حنيفة (ت 150ه) فقال بأن ذلك السهم قد توقف بعد موت النبي عليه السلام كما توقف سهم النبي ذاته، وأما مالك (ت 179ه) فقال أن توزيع ذلك السهم من اختصاص ولي أمر المسلمين يوزعه كيف يشاء.. وكلا الرأيين الأخيرين هو ما تم تنفيذه في الواقع في عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم..
ثم بدأ رأي الشافعي يقوي عند الفقهاء الذين جاءوا من بعده، ذلك أنهم ربطوا فكرة الخمس بموضوع آخر، إذ تم ربط الفكرة بفكرة أخرى جاءت عن طريق حديث ظني خلاصتها أن النبي حرم الصدقات على فقراء بني هاشم، ومع اعتماد الذرية مكان ذوي القربى بحسب اجتهاد الشافعي، قالوا بتحريم الأخذ من أموال الزكاة على ذرية بني هاشم، ودليلهم في ذلك حجة ظنية لا تقف أمام عموم القرآن ولا تستطيع تخصيصه كون القرآن ثبت بطريقة قطعية وحديث الآحاد بطريقة ظنية، وحين قالوا بذلك التخصيص للآية التي ساوت بين فقراء المسلمين جميعا أوقعوا أنفسهم في تناقضات كثيرة، كانت نهاية تلك التناقضات ما وصلنا إليه اليوم.. وحتى لو ثبتت تلك الرواية فإنها ستكون خاصة بأقربائه من بني هاشم في زمنه لا على ذريتهم.
فإذا افترضنا أنه ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قد اجتهد في منع الصدقة على الفقراء من أقاربه في زمنه، فإن الأمر لا يخرج عن كونه رآهم ممن لا ينطبق عليهم أحد مصارفها الثمانية، ولا يقصد أن يحرمهم بالمرة حتى لو كانوا فقراء ومساكين، ويقصد به من كان في زمنه فقط لا ذريتهم.. أما ما يستدلون به من علة لذلك التحريم بأنها (أوساخ الناس)، فإنه يوقعهم في تناقض خطير مع مقاصد الإسلام من العدالة والمساواة.. تقول الرواية في سبب تحريم النبي الصدقة عليهم ” إِنَّ هذه الصَّدَقَاتِ إنما هِيَ أَوْسَاخُ الناس وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ ولا لِآلِ مُحَمَّدٍ (مسلم ج2/ص754)” وهذا الرواية تثير عددا من الأسئلة المهمة التي تثلم في الدين وفي شخصية نبينا، وهي: إن كانت الصدقات أوساخا فكيف يقبل النبي (ص) تلك الأوساخ لبقية فقراء المسلمين ولا يقبلها لأقربائه؟ وهل جاء النبي لتطهير الناس جميعا أم تطهير فئة معينة من أقربائه؟ ولماذا تسمى أساسا أوساخاً وهي حق واجب على الغني كما ذكر سبحانه، باعتبارها من مال الله لا مال الإنسان نفسه؟ ألم يقل الله إن هذا حق للسائل والمحروم، وأن المال مال الله استودعه عندنا، وجعل جزءا منه لهؤلاء؟ فكيف يقول نبينا إنها أوساخ؟ حاشا نبينا أن يقول ذلك.. باختصار فإن هذا الخبر الذي يستدلون به على تحريم الصدقات على فقراء بني هاشم خبر ظني من أخبار الآحاد التي لا تقوى على تخصيص عموم الآيات، إذ أن عموم الآيات رغبت بالإنفاق والإطعام لكل الفقراء والمساكين ولم تخصص بني هاشم في شيء، وكما هو معروف عند بعض الأصوليين بأن تخصيص عموم الآيات بخبر ظني لا يعتمد عليه، خاصة إذا زادت العلل على ذلك الخبر بمخالفته لمعاني الإسلام من العدل والمساواة.
وقد ترسخت تلك الفكرة عن الصدقة حتى وجدنا تعصبا كبيرا عند المذاهب الفقهية في التعاطي معها، حيث وجدناهم يدافعون عنها لدرجة يمكن أن تصل بهم إلى تجاوز نص قطعي الثبوت والدلالة في القرآن الكريم، ولا يتجاوزا الحديث الظني، فمثلا نجد أن المذهب الزيدي يجوّز للهاشمي أكل الميتة عند الضرورة، ولا يجوز له الأكل من الزكاة، فيقدمون وجوباً –للمضطر- أكل الميتة على الزكاة، يقول القاضي العنسي في كتاب التاج المذهب لأحكام المذهب ” (والمضطر) من بني هاشم هو الذي خشي التلف من الجوع أو نحوه إذا وجد الميتة والزكاة فالواجب أن (يقدم) أكل (الميتة) ولا يأكل من الزكاة مهما وجد الميت”، انظروا إلى هذا التعصب رغم أن ثبوت تحريم الميتة بنص قطعي من القرآن وتحريم الصدقة بنص ظني من الحديث، والأولى تحريم ما ثبت بنص قطعي على ما ثبت بنص ظني ولكنه التعصب..
ومن تناقض الفقهاء في هذه المسألة أيضا أني وجدت فريقا كبيرا من فقهاء المذاهب السنية يقولون بجواز الصدقة للهاشمي الفقير، وعدم جواز الزكاة له، فتعجبت واحترت من أمرهم، أليست الصدقة من الناس كما تقولون، والزكاة يصرفها ويوزعها الحاكم، فكيف تكون الزكاة أوساخا ولا تكون الصدقة كذلك! أوليس أخذهم من الزكاة من يد الحاكم أفضل من أخذهم الصدقة من أيدي الناس؟ ثم كيف قالوا ذلك وروايتهم التي اعتمدوا عليها ذكرت لفظ الصدقات لا الزكاة، أليست كل هذه التناقضات تبين لنا أن هناك أياد خفية اصطنعت هذه التخصيصات لفئة ما؟
استمرت حكاية تحريم الصدقة على فقراء ذرية بني هاشم، حتى وقعوا في مشكلة أخرى، وهي كيف سيعيش أولئك الفقراء إن لم يساعدهم المجتمع وتنفق عليهم الدولة من مصارف الزكاة، فقالوا بأن سهم خمس الخمس (كما هو عند الشافعية) والخمس (كما هو عند الشيعة الاثنى عشرية والزيدية) يغطي ويسد تلك الحاجة، ونسوا أنهم جعلوا ذلك السهم لجميع أقارب النبي فقيرهم وغنيهم، فالسهم ليس مخصصاً للفقراء فقط حتى يقولوا إنه سد ذلك الاحتياج، وهذا يخالف مقاصد الإسلام في توزيع المال وتقريب الهوة بين الفقراء والأغنياء، لأنه سيزيد أغنياءهم غنى، بل وزاد الإم
الإمام الشافعي تناقضا آخر حين وزع ذلك السهم قياساً على الميراث، للذكر مثل حظ الأنثيين، رغم الفارق بين الميراث والغنيمة، فرغم مخالفته لعموم النص كان قياسا بعيدا، ولذا خالفه الآخرون في هذا القياس.
وبعد أن ثبّت السنة الشافعية حكم خمس الخمس من الغنائم ومثلها من الفيء ليكون في ذرية بني هاشم أو ذرية علي تحديدا وثبت الشيعة حكم الخمس، جاءت أيامٌ انتكس فيها المسلمون فصاروا بلا غنائم ولا فيء، فلم يجدوا سدا لاحتياج فقراء ذرية بني هاشم، وبدل أن يجتهد الفقهاء ويتجاوزوا ذلك الحديث الظني المتناقض مع مقاصد الإسلام الذي حرم الصدقة على بني هاشم أو يعتبروه مخصصا بمن كان في زمن النبي، ذهبوا في اجتهادهم بعيدا، فقاموا بقياس الركاز على الفيء والغنائم كي يعطوهم من الركاز، وهو قياس مع الفارق طبعا ولا يصح. والركاز هي الأموال التي توجد في بعض الخربات أو في بعض الصحاري من دفن الجاهلية، إما ذهب أو فضة أو أواني أو سلاح أو غير ذلك من الأموال، تكون مدفونة في الأرض، يسمى ركازا لأنه مركوز في الأرض يعني مدفون فيها.
ثم مرت الأيام ولم يجدوا ركازا كي يسدوا به حاجة أولئك الفقراء من بني هاشم، فبحثوا عن اجتهاد آخر يحفظ لهم ذلك الامتياز الوهمي، فوجدوا أن توسيع مسمى الركاز ليشمل ما يكتشف في الأرض من معادن الذهب والفضة، ولما كان ذلك الاكتشاف لتلك المعادن ضئيلا ونادرا ولا يكفي، وسعوا مرة أخرى مدلول مسمى الركاز ليدخل فيه ما تم اكتشافه في الوقت المعاصر من البترول والديزل والغاز وبقية المعادن، فأدخلوا تلك المعادن تحت حكم الركاز.. كانت هذه حكاية الخمس التي تغافلت –تماما- مقصدا مهما من مقاصد توزيع المال في الإسلام وهو “كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ” فخرقوها بقولهم ذلك، إذ أن ما سيخرج من خمس الخمس أو الخمس في تلك المعادن سيؤدي لغناء فاحش لأسر بعينها، على حساب فقراء آخرين، بل سيعطى لأسر غنية من بني هاشم ويحرم منها الفقراء من غيرهم، فإن قالوا بإخراج الأغنياء من بني هاشم وإعطاء فقرائهم فقط فقد خرقوا كل اجتهاداتهم السابقة.
وهكذا تستمر التناقضات دون أن تستدعيهم لمحاولة قراءة جديدة لآيتي الغنائم والفيء بما يتوافق مع سياقهما ومقاصد القرآن!!
المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور”.