كثيراً ما كانت الرّوائية المجرية أغوتا كريستوف تصرّ على التذكير بأنّ “أغوتا كريستوف” اسمٌ حقيقيّ وليس اسماً مستعاراً. كثيراً ما كانت الرّوائية المجرية أغوتا كريستوف تصرّ على التذكير بأنّ “أغوتا كريستوف” اسمٌ حقيقيّ وليس اسماً مستعاراً. قد يكون مردّ ذلك إلى الخلط الذي قد يقع فيه السّامع بين اسمها واسم “أغاتا كريستي”. وبالفعل عادةً ما يقع في أذن المُخاطَب اسمُ الثّانية إذا لم يكُن يعرف الأولى. على أنّ تشابُه الأسماء ليس الشيء الوحيد الذي يجمع الكاتبتين، فقد صرّحت الكاتبة المجرية غير ما مرّةً أنّ حُلمها كان كتابةَ رواياتٍ بوليسيّة، وأنّها تعتبر الكتابة البوليسيّة أعلى أشكال الكتابة الروائيّة الممكنة، ولولا جهلُها بواقع التحريّات البوليسية وطُرق اشتغال الشّرطة لتوجّهت إلى كتابة الرّوايات البوليسيّة. لكن هل حقاً من الضّروريّ أن يحضُر الشّرطة والمحقّقون وأقسام البوليس والمخافر في الرّواية لتستحقّ صفة الكتابة الرّواية البوليسيّة؟
ربّما تكون بنية الكتابة البوليسية بنيةً أعمقَ تتجاوز الشّكل المتداول عنها. فلا ريب أنّ لا شيءَ أكثر إغراءً في قراءة العمل البوليسيّ من وجود جريمة تسمح للقارئ بتقمّص دور المحقّق، والمضيّ في جمع القرائن وتأويل التفاصيل، إلاّ أنّ بإمكان العمل الروائيّ أن يكون عملاً بوليسياً، أو على الأقلّ يحمل بنيةً بوليسيّة بدون أن تكون أحداثه دائرةً في فضاء التحقيقات البوليسية التقليديّ؛ حتّى أنّ الععديد من الروايات العالمية تحجبُ تصنيفاتُها العامّة بنيتها البوليسية، ولا تُقارب من زاوية الكتابة البوليسية على الرّغم من أنّها تحمل كلّ معالم الكتابة البوليسية.
اسمي أحمر: البوليفونية التي يختفي خلفها القاتل: لا شكّ في أنّ القصد البوليسي في رواية اسمي أحمر للتركيّ أورهان باموك ليس هو الأهمّ، ذاك أنّ الرواية تعالج موضوعات أعمّ وأعمق (علاقة الشرق بالغرب؛ اختلاف النّظام البصري باختلاف الثقافات؛ فضلاً عن القصد الجمالي الذي حشد المؤلّف معرفةً تشكيلية واسعة لبنائه)، إلا أنّ الرواية مع ذلك تتبع خطاً بوليسياً، يبدأ بإعلان الجريمة التي نسمعُها من فم الضحيّة نفسه (أنا ميّت)، ويمضي متصاعداً عبر الأصوات التي تعبّر عن نفسها متواطئةً في آنٍ على ربط الخيوط التي تؤدّي إلى كشف القاتل، وعلى إخفائه وجعله يتوارى. لربّما كان اختيار البوليفونية من طرف باموك مقصوداً لهذا الغرض تحديداً: إخفاء القاتل، أو إطالة مدى تخفّيه، وتوسيع اللّغز ما أمكن. فالدّارج أنّ الرواية البوليسية في بنيتها التقليدية هي رواية الصوت الواحد (صوت المحقّق أو مساعده أو الراوي أو…)، بحيث أنّ أحادية الصوت تساعد على الإمساك بخيط سبر الوقائع؛ أمّا باموك فقد اختار بالمقابل تعدّداً صوتياً مهولاً، تعدّداً لا يصنعه عدد الرواة فحسب، وإنّما اختلافهم الكبير: كلّ شيءٍ يتحدّث في النص، كلّ شيءٍ له صوتٌ، وكلّ شيءٍ ينطق باسمه ويسهم بقطعة من قطع لُعبة “البازل” الضخمة التي يسعى القارئ إلى إعادة تشكيلها بُغية فكّ “اللغز” (كلّ الشخصيات تروي، وبالإضافة إليها نسمع صوتَ النقود والكلب والرسم واللّون الأحمر والشيطان و…). ولعلّ هذه “البلبلة” الصوتية، كما أسلفنا هي ما يسهم في إخفاء القاتل، وتشتيت ذهن القارئ نحو قضايا أخرى غير قضيّة القتل الأساس، لكنّها (أي البوليفينية) تحقّق الغرض “الأساس” من كتابة الرواية، أي الدّفع بالقارئ إلى تجاوز تقصّي الجريمة البسيطة (جريمة قتل أحد الخطّاطين)، نحو “الجرائم الأكبر”، ففي نهاية المطاف لا يهمّ معرفة اسم القاتل، وحتّى كشف اسمه في الفصول الأخيرة من الرواية لم يكن ضرورةً لا مندوحة عنها، وإنّما هو فقط خيارٌ من بين خياراتٍ أخرى اختارها المؤلّف. ذاك أنّ الجريمة التي تمحورت حولها الرواية لم تكن سوى خيط ناظم لأحداث السّرد، لشبكة أعقد من الجرائم: (جرائم الغرب في حقّ الشرق، وجرائم الشرق في حقّ أبنائه، وجرائم الخطاطين المتآمرين على كتاب السلطان، وجرائم السلطان في حقّ الخطاطين ورؤيتهم، والجرائم في حقّ شكورة….)؛ وحتّى الجرائم قد لا تكون في نهاية المطاف سوى تجليات لصورة أعمّ ينبغي أن يبنيَها القارئ، صورة أكبر وأعمق، إنّها صورة شرقٍ بأكملِه يحاول أن يعيد ترميم ذاتِه في علاقته بالغرب، شرق لربّما يلفظُ أنفاسه الأخيرة، ويناضل ليحافظ على رؤيته للعالم، تلك الرؤية التي تجد ملاذها في المنمنة في مقابل الرؤية البصرية الأوروبية القائمة على “المنظور”.
– امتداح الخالة: الخطّ الأطول والخطّ الأقصر: تتشابه رواية “امتداح الخالة” لماريو بارغاس يوسا مع رواية “اسمي أحمر”، من حيث المادّة التي اشتغلت عليها كلّ منهما (الفنّ التشكيلي)، وأيضاً من حيث البنية البوليسية المضمرة. وعلى خلاف الكاتب التركي الذي ارتضى مقاربة مقارنةً بين ثلاثة أشكالٍ من الرؤية البصيرة والتعبير الفنيّ المترتّب عنها (المنمنمة الإسلامية وفن الرّسم الصيني والمنظور الأوروبي)، فإنّ الكاتب البيروفي اختار مقاربة خطيّة تصطفّ فيها أعمال تشكيلية بعينها (لوحة ملك ليديا لجاكوب جوردايِن؛ والبشارة لفرا أنجليكو؛ وأمثولة الحبّ لبرانزينو؛ وفينوس، الحبّ والموسيقى لتيتيان؛ وديانا تستحمّ لفرانسوا بوشيه؛ ورأس فرانسيس بيكون…). تصطفّ الأعمال السّابقة في خطّ سرديّ يُتناوب فيه السّرد بين صوت اللّوحة وصوت الرّاوي. فصلٌ تعبّر فيه اللّوحة، وفصل يسرد فصلاً من فصول ملهاةٍ بطلُها الدّون ريغوبيرتو وزوجتُه وطفله من امرأةٍ أخرى. بين هذا المثلث (الرجل-المرأة-الطفل) لُغزٌ وخيانةٌ تمضي متصاعدةً لتنكشف في النهاية كالصّاعقة، لكنّ سير اللّغز وانكشاف خيوط “الجريمة”، يتمفصل كلّ مرّة حول مفصلٍ تاريخيّ فنيّ أكبر وأعظم، وكأنّما حياة الشّخوص ليست سوى انعكاسٍ لحياة الأعمال الفنيّة نفسها. إنّ عالمنا الأصغر وعلاقاتنا الضيّقة (مهما بلغ تعقيدها)، ما هما إلا انعكاسٌ للعبةٍ أكبر يختزلها تاريخ الفنّ. لقد ظلّ الدّون ريغوبيرتو يجمع اللّوحات الفنيّة والكتب، ويدافع عن أنّ الخلود ميزةٌ لا تستحقّها سوى الأعمال الفنيّة، وأنّ حفظ لوحةٍ تمثّل شجرة أهمّ وأجدى من حفظِ غابةٍ مهدّدة بالقطع والانقراض، لأنّ الواقع في اعتقاده ليس سوى صورة مشوّهة للفنّ، انعكاس ردي للجمال الحقّ، دون أن ينتبه إلى أنّ حياتَه هو نفسه، وعلاقاته ما هي إلا إعادة إنتاج لتاريخ الفنّ.
مرّةً أخرى ليس القصد البوليسي هو الغاية من كتابة الرواية، لكنّ البنية البوليسية في خلفية الرواية لا تخطئُها العين، وهي ما يضمن للعمل تماسكه.
– سرد وقائع موت معلن: الميت الذي قد ينجو: على خلاف الشّائع في الكتابة البوليسية، حيث يكون الرّهان “عادة” تقفّي الآثار وتتبّع القرائن الكفيلة بإيصالنا إلى القاتل، فإنّ رواية ماركيز، التي يعتبرها العديد من النّقاد أكمل ما كتب من النّاحية الفنيّة، تعلنُ منذ البداية عن مقتل البطل سانتياغو نصار وحتّى عن القاتل وعن دوافع القتل. ومع ذلك أخذ الكاتب الكولومبي على عاتقه سرد وقائع “موتٍ معلنٍ”، جريمةٍ اكتملت وانتهت.
كان دولوز وغواتاري في كتابهما “النّجود الألف” قد نبّها إلى تمايز لطيفٍ بين القصّة والحكاية والرّواية من حيث علاقةٍ كلّ واحدة منها بالزّمن السّرديّ، ذاك أنّه على خلاف القصّة التي يتمحور فيها السّرد حول السؤال “ما الذي حدث؟”، والحكاية التي يتمحور فيها حول السؤال “ما الذي سيحدثُ؟” فإنّ السرد في الرواية يتمحور حول السؤال “ما الذي يحدث؟”، بحيث أنّ علاقة القارئ بسير الأحداث في الرواية تكون علاقةً آنيةً، يساير الأحداث في حدوثِها. ولربّما يكمن جزءٌ من عبقرية رواية وقائع موتٍ معلن في أنّ الكاتبَ تمكّن من أن يحفظَ قوّةَ السؤال الثالث “ما الذي يحدث؟”، على الرّغم من بنائه الرواية على السؤال الأوّل “ما الذي حدث؟”، ذاك أنّ الرواية تنطلق منذ البداية بالإجابة عن هذا السؤال “لقد قُتل سانتياغو نصّار”، لكن القارئ سرعانَ ما يكبت هذه الإجابة ويمضي مسايراً الأحداث وهي تقع حدثاً بحدثٍ؛ لا بل إنّ الرواية لا تقصي مع كلّ ما سبق السؤال الثاني “ما الذي سيحدث؟”، إذ تغذّي لدى القارئ أملاً في إمكان نجاةِ البطل. فعلى الرّغم من أنّ كلّ شيءٍ قد صُرح به منذ البداية وأُقرّ موتُ البطل كحكمٍ ناجزٍ غير قابلٍ للاستئناف، إلاّ أنّ القارئ يظلّ متمسّكاً حتّى آخر سطر بإمكانِ نجاة القاتل، ولا يصدّق ما وقع حتّى يشهد سقوطه في المطبخ.
لعلّ مردّ هذا الإحساس بالمكيدة السردية، أي إمكان أن يكون السارد يكذب، وأنّ سانتياغو سينجو، إلى أنّ ماركيز لم يرسم خطَّ جريمة قتل سانتياغو نصّار، بقدر ما وضع خريطة تتضمّن معظم خطوط الانفلات التي كان يمكن أن يسلكها البطل لينجو من القتل، كلّ شيء كان يجري وفق خطّة تسمح للبطل لأن ينجو لولا أنّ الحكم ناجزٌ ولا يمكن استئنافه. بدلاً من رواية “وقائع موتٍ معلنٍ” سرد ماركيز “مختلف روايات نجاةِ ميّتٍ معلن”.
قد تكون أغوتا كريستوف نفسها، التي تحسّرت على عدم معرفتها بتفاصيل عمل البوليس ممّا يعوقها عن كتابة الرواية البوليسية، قد كتبت الرواية بمعنى ما، فعلى امتداد ثلاثيتها “ثلاثية مدينة كا” لا يكفّ القارئ عن تقصّي ما يحدث ، وإعادة تشكيل الحقيقة، التي تنقلب من جزءٍ إلى آخر، عبر ضمّ القرائن بعضها إلى بعض.
قطعاً لا ندّعي ممّا سبق تنظيراً في جنسٍ ونوعٍ أدبيّين له بلا شكّ دارسوه والعارفون بنصوصه وآليات كتاباته، إنّما هو فقط تفكير يروم التنبيه إلى أنّ الرواية البوليسية قد يتّسع أفقها عن أن تُحصر في أقسام البوليس، وأنّها قد تكون “رواية بوليسية” بدون شرطةٍ أو محقّقين!
نقلا عن المنبر العربي الثقافي “ضفة ثالثة”