هذا الرجل الذي يقف أمامي تحصد مقولاته ومنشوراته عن أوجاع الفقراء والمحتاجين ألاف الأعجابات والمشاركات والتعليقات العابقة بالثناء.
في مركز التسوق الكبير وجدته أمامي مباشرة..
إنه نصير الفقراء والمحتاجين؛ الرجل ذائع الصيت في مواقع التواصل الاجتماعية تلك التي فصلت بقوة بين الواقع وبين ما نتخيله في عالم افتراضي.
هذا الرجل الذي يقف أمامي تحصد مقولاته ومنشوراته عن أوجاع الفقراء والمحتاجين ألاف الأعجابات والمشاركات والتعليقات العابقة بالثناء.
لقد نال شهرته كرجل يساند المحرومين ويتحدث باسمهم ويسعى من أجلهم..
لكنه أمامي الآن يمارس ترف الأغنياء وبذخهم وهو يدفع عربة تسوق كبيرة قد امتلأت بما لا يمت للفقر بصلة؛ بضائع لا يعرفها الفقراء ولا يتخيلون اقتنائها لسعرها المرتفع وكمالية وجودها.
بدافع الحنق فتحت كاميرا هاتفي كي أثبت تناقض هذا الرجل بين ما يقوله وما يعيشه.
كنت أنوي فضحه أمام محبيه وكشف زيف هذا العالم الذي يمجد الأقوال ولا يعرف أفعال أصحابها.
لقد التقطت مشهد ابتسامته المطمئنة والواثقة مما يفعل!!
لم يكن يعلم أنه يخون كل مقولاته تلك عن القناعة والحياة كما يعيش البسطاء من الناس.
ثم من أين له كل هذا وهو المعلم البسيط بدون راتب والذي يحيا بكدح كما يقول؟
أعددت كاميرتي كي أوثق كل شيء خفية وبصمت..
الوقفة الواثقة لجسده الذي كاد أن يختفي خلف عربة امتلأت حتى التخمة بمختلف السلع المرفهة استفز غضبي أكثر.
حتى وهو يدفعها بمشقة واضحة كنت أرى ابتسامته كأنها تسخر من أوجاع المعدمين الذي يتشدق صباحا ومساء بمعاناتهم.
بقي واقفا هناك وأنا أرقبه خفية وعن كثب عندما اقتربت منه امرأة مسنة تنوء تحت ثقل سنوات عمرها وهي تحمل سلعا اضافية أخرى لتضعها في العربة المثقلة كالمرأة المسنة تماما.
كانت المسنة تتحدث بصوت مرتفع لم يصل إلى أذنيّ فقط وإنما إلى كل أذن مرت بالقرب.
رأيت دموعها وهي تقول:
_لقد أدخرت مالاً كافيا لثمنها فلا تقلق؛ كل ما كان يرسله لي أولادي من غربتهم أدخرته كي أشتري لأحفادي ما تعودوا عليه في غربتهم من مأكولات وسلع؛ سيحبون البقاء معي الآن ولن يرحلوا سريعا من حيث أتوا..
أبتسم هو في وجهها مشجعا وأخذ يدفع العربة بصعوبة إلى حيث يدفع الحساب.
كنت ألحق بهم ولم أعد أصور المشهد فقد شعرت أن في الأمر شيء آخر.
عند آخر قطعة تم وضعها بين الأكياس ظهر المبلغ المهول؛ أخرجته المسنة من بين طيات جلبابها بحرص وناولت المعلم الذي دفعه كاملاً ثم امتدت يده إلى جيوبه في النهاية كي ينفضها نفضا بحثا عما يكمل المبلغ.
وأخيرا حمل كل شيء خارج مركز التسوق..
وهناك وضع كل شيء في سيارة أجرة ودفع حسابها مقدماً وأخذ يودع السيدة المسنة بحنو بالغ.
عادت لترفع صوتها مجددا ربما كما تعودت بعد أن انخفض سمعها فظنت أن الكل لا يسمع مثلها كانت تدعو له والدموع معلقة بين جفنيها :
_شكراً أيها الرجل الطيب؛ أتعبتك معي؛ لقد أسعدت قلبي بتحقيق حلم طالما راودني.
أسعد الله قلبك بكل خير..
فرد هو عليها مربتاً على كفها بود وحنان قبل أن يشير للسائق أن ينطلق حيث أخبره.
لم أتمالك نفسي وأنا أتجه إلى المعلم بخشوع وأسأله بغباء ظهر جليا على ملامحي حيث رفع حاجبيه دهشة وهو ينظر نحوي:
_من هذه يا معلم؟
أجابني والدهشة لم تغادر ملامحه ربما من فضولي الزائد أو سؤالي دون مقدمات أو سابق معرفة:
_ هذه امرأة وجدتها تائهة في مركز التسوق وحيدة.
لقد اشترت سعادتها بقرب أحفادها في ما تبقى من عمرها بكل ما أدخرته كل سنوات عمرها من مال.
المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور”.