كتابات خاصة

لا شيءَ فيها منها!

حسن عبدالوارث

غَزَتْ العشوائية كل شيء في مدينة عدن. هل قلت: مدينة؟ .. أعتقدني أخطأت الوصف.. فهذه الـ”عدن” لم تعد مدينة بأيّ معنى من المعاني! … فكيف لمدينة أن تكون بلا مدنيَّة؟

غَزَتْ العشوائية كل شيء في مدينة عدن. هل قلت: مدينة؟ .. أعتقدني أخطأت الوصف.. فهذه الـ”عدن” لم تعد مدينة بأيّ معنى من المعاني! … فكيف لمدينة أن تكون بلا مدنيَّة؟

والعشوائية في عدن لم تكتفِ بالتخطيط الحضري، هذه الميزة التي كانت تتميز بها عدن وتتَّصف، كسائر المدن الراقية والعريقة في بلاد العرب والعجم على السواء، بدءاً من بيروت ودمشق والقاهرة وبغداد، حتى لندن وروما ومدريد وباريس.
فالأحياء العريقة في هذه المدينة قد أختنقت تماماً في معمعة النتوءات العشوائية التي نخرت الجبال والتلال حول المدينة، ثم أمتدت كالأخطبوط في ربوعها وشوارعها، حتى بلغت البحر فاستوطنته كالسرطان!
وقد تجاوزت هذه الآفة العشوائية التخطيط الحضري -كما قلت- صوب العلاقات الاجتماعية والعادات اليومية، وقبل هذي وتلك : الأخلاق والقيم. فالداهية أن عشوائية المعنى أشد ضرراً من عشوائية المبنى، والعبث في مكنونات النفس البشرية أعمق أثراً من العبث في مرصوفات الدرب الحجرية. وفي هذا الأمر ومثله، قال الفيلسوف اليوناني العظيم أفلاطون: أن أشد مآسي الحياة فداحةً أن يموت شيءٌ في جوهر الانسان وهو مازال حياً!
رحتُ أجول في الأحياء الشعبية التي كانت عدن تزدان بها وتأنس وتفخر، ليس لطابعها العمراني المتواضع وانما لطبعها الأخلاقي المترافع.. فهذه الأحياء كانت كتلة هائلة من المحبة والتراحم والمودَّة والتكافل والأُلفة والايثار، يتزاحم أهلها لتبادلها مع بعضهم ويتنافسون في بذلها بابداع وامتاع عن طيب خاطر لا محض مظاهر.
كانت الأحياء الشعبية -يومذاك- تمتص كربون الفقر كأسفنجة، ثم تعتصره في كأس المُهجة، سائلاً ورديّ اللون، سماويّ القسمات.
وكان جورج برنارد شو قد قال يوماً: كلما أمتلك الانسان أكثر مما يحتاجه، أزدادت همومه. كانت حاجاتنا -في تلك الأيام- بسيطة جداً ومحدودة إلى أبعد الحدود.. وكانت “صانونة الهواء” صانونة هوى، قادرة على اقناع المرء بأنه قد بلغ تخوم التخمة وذُرى الرخاء، وأن “أكثر من كذا بَطْرَة”!
ولم تكن الاجراءات السياسية والاقتصادية التي ضاعفت من فقر الفقراء في “دولة الفقراء الفقيرة” على قدر كافٍ من الصحة والضرورة، لكن الناس أحالوها -بقدرة أسطورية- من عامل اخضاع الى عامل امتاع.. فكانت قعدة “البَطَّة” في وقت العصاري -مع واحد شاهي يا ليد- أقوى حزب سياسي جماهيري عرفه التاريخ الحديث والمعاصر، بحسب المُعلِّق السياسي لاذاعة BBC يومها.
كانت الأشياء الحميمة لا تخشى الاندثار. نادى رضوان صاحبه عبدالتواب: يا جَبَلْويز تعال باقول لك.. لكن الأخير لم يحس للحظة أن صاحبه يسخر منه، فقاموس المناطق واللهجات لم يكن يوماً مُعرَّضاً للدنس في هذه -تلك- المدينة، بأيّ شكل. وكانت “المُناجَمة” خالية من سموم المشاعر المريضة.
تلك عدن.. تلك التي كانت.
أما هذي، عدن هذي، فليس ثمة شيء فيها منها غير الاسم فقط!
المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور”.
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى