كتابات خاصة

معادلة النهضة

عبدالله القيسي

كان شكيب أرسلان قد طرح سؤالا في ثلاثينيات القرن الماضي سمي فيما بعد بسؤال النهضة، وذلك من خلال الكتاب الذي عنون بــ لماذا تأخّر المسلمون كان شكيب أرسلان قد طرح سؤالا في ثلاثينيات القرن الماضي سمي فيما بعد بسؤال النهضة، وذلك من خلال الكتاب الذي عنون بــ لماذا تأخّر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم؟ وهو السؤال الذي شغل بال كثير من المفكرين فاتجهوا للبحث عن أسباب إخفاقات العرب والمسلمين وتراجعهم الحضاري وعن أهم أسباب النهضة والصعود الحضاري لهذه الأمة..

وقد اتجه المفكرون العرب للإجابة على هذا السؤال كلٌ بطريقته، فكتبوا كتبا ومشاريع متكاملة للإجابة على ذلك السؤال، فمثلا كتب فهمي جدعان أسس التقدم عند مفكري الإسلام، وكتب مالك بن نبي شروط النهضة وكتب أخرى، وكتب محمد عابد الجابري سلسلة نقد العقد العربي، وكتب هشام جعيط المثقفون والعرب، وكتب هاني نسيرة أزمة النهضة العربية وحرب الأفكار، وكتب محمد وقيدي وأحميدة النيفر لماذا أخفقت النهضة العربية، وكتب زكي الميلاد عصر النهضة كيف انبثق ولماذا أخفق؟ كما لامست كتب أخرى سؤال النهضة من أوجه مختلفة غير مباشرة ككتابات أحمد أمين وطه حسين وعباس العقاد وسلامه موسى وحسن حنفي وزكي نجيب محمود وجورج طرابيشي وعبدالجواد ياسين وأبو يعرب المرزوقي وطه عبدالرحمن وطارق البشري وحسن الترابي وعزمي بشاره ولؤي صافي وبرهان غليون ومحمد عماره ومحمد سليم العوا وعبدالحميد أبو سليمان وعبدالكريم بكار وغيرهم كثير.. وقد تنوعت الإجابات بتنوع اتجاه أصحابها فكان منها الإسلامي وكان منها اليساري وكان منها الليبرالي..
كان يفترض أن تصل تلك المشاريع وتلك الإجابات بتنوعاتها المختلفة أو نبذة عنها إلى الشباب العربي المتطلع للنهضة، ولكن ما هي القنوات التي يمكن أن توصل تلك الإجابات وتغرس هم ذلك السؤال في أذهانهم وهم الإجابة عليه فتكون ديدنهم الدائم في نقاشاتهم واجتماعاتهم ومحورا مهما في حياتهم؟
لقد فكرت في أفضل الطرق وأجودها لوصول ذلك فكان التفكير يذهب باتجاه مؤسسات التعليم كونها المناخ الأجود والأفضل والأكثر انتشارا، فإذا استوعبت الجامعات ذلك ضمن منهجها ضمنا اهتمام الأجيال بسؤال النهضة، ولكن كيف ذلك؟
للجامعات كتب مقررة على جميع الأقسام كنوع من المتطلب كمادة “الثقافة الإسلامية” ومادة اللغة العربية” ورغم حسن الاختيار للعنوان المقرر إلا أن المادة المضمنة تحتاج لكثير من التجديد والمراجعة والتغيير، فمثلا بدل أن تغرق مادة “الثقافة الإسلامية” في تفصيلات تأتي متأخرة في قائمة الأولويات، أو قضايا مما يمكن الاختلاف فيها، أو قضايا تزيد الطالب تعصبا، يمكن أن تركز تلك المادة على شيئين رئيسين، فيكون قسمها الأول حول فلسفة الإسلام المعاصرة للحياة والكون وإجابها عن أهم الأسئلة التي تطرح عليه، بدل أن يعيش الطالب حالة صراع بين ما تقدمه النظريات الحديثة وما يراه في التصور التقليدي للإسلام والذي لم يعد بتلك الفلسفة منافساً للفلسفات والنظريات الحديثة، أما قسمها الثاني فيقدم إجابات مختصرة ومركزة لسؤال النهضة مشيرا لأهم الكتابات والمشاريع العربية المتنوعة، فيخرج الطالب بعد اطلاعه على تلك الإجابات والمشاريع على مواقع التأخر والتراجع في المجالات المختلفة، فيعرف كيف ينطلق الانطلاقة الصحيحة من خلال تخصصه لسد ثغرة من تلك الثغرات، فيساعده ذلك على الإبداع في تخصصه، ويساعده في جعل ذلك الإبداع يصب في مسار النهضة لبلده وأمته، أما إن لم يشغل نفسه بسؤال النهضة فإنه سيشغل نفسه بأسئلة هي أقل أهمية وقيمة ومن ثم يقل الإبداع أو يخفق لأنه بلا محرك داخلي.
وفي زحمة تلك الإجابات على سؤال النهضة دعوني أقدم لكم خلاصة إجاباتي من خلال اطلاعي وقراءتي لبعض ما كتبه أولئك.. لقد حاولت أن أقدمها بسيطة للقارئ من ناحية وعملية من ناحية أخرى، فجاءت على شكل معادلة سميتها “معادلة النهضة”.
لقد وقفت تلك المعادلة عند أهم مشكلات يعانيها الفكر العربي، وهي التقليد والاستبداد الفكري والسياسي والضعف المعرفي، فتلخصت الإجابة كالتالي:
لا يمكن لأي أمة أن تنهض دون عملية إبداع على كل المستويات، ولا يمكن أن يتحقق الإبداع إلا في مناخ الحرية، ولا يمكن أن تتحقق الحرية إلا بالوعي، وأول طريق إلى الوعي هو القراءة.
إذن فإن خلاصة المعادلة تقول: القراءة تحقق الحرية والحرية تحقق الإبداع والإبداع يحقق النهضة.
وبداخل هذه المعادلة كلام كثير يجيب على تساؤلات عدة، فما هي تلك المعرفة التي يمكن أن تحقق لنا الحرية؟ وما هي تلك الحرية التي ستنقلنا وتسهل لنا الإبداع؟ وكيف تتضافر الجهود الإبداعية لتشكل رافدا للنهضة؟
لا يكفي هذا المقال للإجابة على تلك الأسئلة، لكن يمكن المرور سريعا بكلمات مضغوطة على إجابة الشق الأول منها، فأهم ما تحققه القراءة هو “اكتشاف الذات” والذي من خلاله نستطيع أن نخرج طاقاتنا وإمكاناتنا وإبداعاتنا، وبدون معرفة الذات لا نستطيع أن نبدع، وقديما قال سقراط ملخصا هدف الفلسفة “اعرف نفسك بنفسك”، فالقراءة في الشعر والأدب تساعدنا على اكتشاف المشاعر والأحاسيس، والقراءة في الفكر والفلسفة تساعدنا على اكتشاف الأفكار، والمشاعر والافكار هي من توجه سلوكنا، فإن اكتشفناها تحكمنا بها وإن لم نكتشفها تحكمت بنا.. فالشاعر يلتقط المشاعر بالصور المجازية ثم يقدمها إلينا لنمسك بها، والمفكر يلتقط الفكرة ثم ينحت لها مصطلحا ويقدمها إلينا لنسمك بها.. وكلما زادت الصور المجازية والمصطلحات عندنا استطاع العقل أن يفكر بطريقة أعمق وأدق، لأن مساحة التفكير عنده أوسع فنحن في الأخير نفكر من خلال الكلمات والمصطلحات التي في مخزوننا.
وكلما كانت القراءة أكثر كلما كان التفكير أعمق وأدق وكلما كان الوعي أكثر، وكلما وعينا بذاتنا انكسرت القيود الداخلية التي تقف أمامنا عائقا عن الإبداع، فتنكسر قيود الجهل التي تمنع عنا الحرية الداخلية، ثم بالوعي نناضل لاكتساب حريتنا الخارجية ممن يريد أن يغلقها باستبداده الفكري أو السياسي، فإذا صفى مناخ الحرية نبت الإبداع في شتى المجالات ووجد له من يسقيه حتى يثمر..
من أهم ما يسعى له البشر هو الوصول للحكمة، والحكمة طريقها السريع هو القراءة والتجربة مع التأمل، فإذا لم يصحبهما التأمل لم يثمرا حكمة، وكم من أناس قرأوا ولم يصلوا وكم من أناس جربوا ولم يصلوا فالتأمل أشبه بخض اللبن بعد تجميعه لإخراج زبدته، فمن لا يخض المعرفة والتجربة لايمكن أن يخرج منها زبدتها..
وأخيرا إذا قرأتهم يوما عن التجربة الماليزية فلا تنسوا أن تقرأوا كيف أسست نظام تعليمها لتصعد بنظامها الاقتصادي، وهذا ما يغيب عن بال الكثير ممن يركز على الجانب الاقتصادي فقط.
المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
 
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور”.
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى