كتابات خاصة

التحشيد المذهبي في اليمن

محمد عزان

تعتبر المذهبية في اليمن أقل حدة منها في كثير من البلدان الإسلامية، فـ”التيار السني” في غالبيته من الشافعية، كما أن “التيار الشيعي” من الزيدية، وقد عَرف الناس المذهبين بالتسامح الذي يكاد يبلغ حدَّ الاندماج، فرموز المذهبين يتفقون على أكثر مما يختلفون فيه، ولم يكن بينهم تصادم وتنافر في كثير من مسائل الخلاف. تعتبر المذهبية في اليمن أقل حدة منها في كثير من البلدان الإسلامية، فـ”التيار السني” في غالبيته من الشافعية، كما أن “التيار الشيعي” من الزيدية، وقد عَرف الناس المذهبين بالتسامح الذي يكاد يبلغ حدَّ الاندماج، فرموز المذهبين يتفقون على أكثر مما يختلفون فيه، ولم يكن بينهم تصادم وتنافر في كثير من مسائل الخلاف، التي قرر الجميع أن الاختلاف فيها نوع من انواع الاجتهاد الجائز، نظراً لاختلاف النقل عن المشرِّع وتفاوت الناس في الفهم واختلاف أساليبيهم في التطبيق، إلى جانب أنهم لم يكونوا يستحضرون التفاصيل الفكرية العقدية، والسياسية التاريخية للإثارة والتحريض، بل كان ثمة تفهّم من كل طرف لما يخالفه فيه الطرف الآخر، مما جعل مؤسساتهم التعليمية ودور عبادتهم مختلطة، وكان بعضهم يتتلمذ على بعض، ويهاجر إليه لطلب العلم بين يديه، ويتبادلون الإجازات، وكل طرف يجل الآخر ويعتمد روايته ويحترم اختياراته الفقهية وإن لم يعمل بها.
واليوم، ونتيجة لدخول اليمن مرحلة التجاذبات السياسية برزت المشكلة المذهبية في أشكال وقوالب مختلفة، وأخذت تتفاقم نتيجة الاستقطاب السياسي والتأثير الإقليمي والدولي، الذي وجَدَ – المغرض منه – في المشاعر المذهبية مادة قابلة للاشتعال ووسيلة للدفع بالمجتمع نحو “الطائفية” التي يسهل من خلالها شق الصف وحشد الناس ضد بعض، ومن ثمّ التحكم في الوضع العام للبلد من خلال لعبة ترجيح كفات الصراع حسب مقتضيات السياسة الاقليمية والتوجهات الدولية.
عند ذلك أخذت التفاهمات التي مضى عليها السابقون تتساقط، وساعد على ذلك كثير من المتنطعين من داخل المذاهب، حين سارعوا إلى وضع العلامات الفاصلة بين أبناء المذاهب ذات الخلفية الاسلامية الواحدة، والتاريخ الوطني المشترك، مما سيضرب مستقبل التعايش والتسامح بين أبناء المجتمع الواحد. حتى صار بعضهم – وللأسف – يعتبر تعايش السابقين وتسامحهم ضرباً من المجاملات والمداهنات على حساب الحق والدين، وعمل على إقناع فريق من الأتباع بأن عداوة ومفاصلة المختلفين معه من إخوانه المسلمين إحدى ركائز الدين والانتصار للحق، وبذلك اغرقوا الناس في ممارسة الحزبية المذهبية لفرض فكر خاص، بحجة أن في ذلك حماية لجماعته من التأثر بالغير والأخذ عنهم؛ لأن الاختلاط بالغير والأخذ عنه أحد أسباب الانحراف في نظرهم.
وفي ظل ذلك تسللت إلى المجتمع “السني” تيارات دينية يغلب عليها السطحية والحرفية وحدة الموقف تجاه الآخر، كما تسللت إلى المجتمع “الزيدي” تيارات يغلب عليها الغلو والتأثر بالأساطير والخرافات، وأخذ كثير من اليمنيين المتفاهمين مذهبياً ينجذبون – تحت مؤثرات شتى – نحو هذا الطرف المتطرف أو ذلك، وشيئاً فشيئاً صارت المذاهب مزيجًا من الدين والسياسة، وتحولت إلى ما يشبه معسكرات يحشد كل منها لمواجهة الآخر، وأخذ الوسط المعتدل يذوب بالتدرج تحت تأثير حرارة الفرز والشحن والتحريض، حتى تحولت في بعض المناطق إلى مأساة يُحاسَب الناس فيها على هوياتهم المذهبية ونتج عن ذلك قتل وتشريد ومواجهات مسلحة مؤسفة.
ونتيجة لذلك تشكلت مدارس متنافرة، على أسس مذهبية؛ أفرغت من عوامل التآلف، وشحنت بمشاعر البغض والعداوة القابلة للإنفجار في أي وقت ولأتفه الأسباب. واستُحضرت للزيادة من غلوائها كثير من الخلافات التاريخية ذات الطابع السياسي، باعتبارها المخزون الأكبر لتجاذبات وأخطاء الفُرقاء، ومرتع الأهواء والصراعات، وتم ربطها بالدين والعقيدة، وسخرت لها وسائل إعلام خاصة وعامة ومنابر الخطاب الديني بكل أشكاله.
وهذا يعني أن المذاهب المتسامحة في اليمن وقعت ضحية السياسة الحزبية، والتجاذبات الاقليمية، التي جنت عليها حين حولتها من فكر رحب عابر للحدود إلى سياسة محصورة لخدمة أنانيات ضيقة.. ولكنالمسار سرعان ما تغير فصارت “المذهبية” هي من يتحكم في السياسة، وهذا ما يجعلنا نلاحظ أن أكثر الحركات السياسية ذات الطابع الديني يغلب عليها التمذهب أكثر من السياسة، وإن تظاهرت بخلاف ذلك، لأنها ترى أن مبرر وجودها هو السعي لتمكين “فكرها المذهبي الخاص”، وهو ما يجعلها غير مكترثة بوضع المجتمع، وأحواله المعيشية، ومستوى وعيه وصحته، بقدر اهتمامها بالاستحواذ على مراكز التأثير الفكري والتربوي لحشد الناس تحت لوائهم الذي يرون أن فيه – دون سواه – صلاح الأمة، أو انتصارا لله، أو نصرة للشريعة؛ وإن أبدت بعض تلك التيارات شيئاً من الاهتمام بشأن الناس، فما هو إلا بقد ما تريد أن تحقق من استقطاب المؤيدين والأنصار للحصول على أكبر قدر من المكاسب “السي مذهبية”. 
(في الحلقة القادمة سنتطرق إلى صور مختلفة من المعالجات ووسائل الحماية من الانهيار).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى