تكلم بعض السلف عن مقامات النبي وناقشوها، وأكثر من اشتهر عنهم ذلك هم الفقيه الشافعي العز بن عبدالسلام، والفقيه المالكي القرافي، والفقيه الحنبلي ابن القيم، والفقيه المالكي الشاطبي، أما من الفقهاء المعاصرين فاشتهر عن الفقيه الأصولي ابن عاشور.
بينما كنت أبحث في موضوع “مقامات النبي” وجدت أن هناك رابطا بين مقام النبي في ولاية الأمر وبين السلطات الثلاث التي وصلت لها الدولة الحديثة.. لم يكن الأمر مقصودا للوصول إلى ذلك الرابط ولكن المصادفة وحدها قادتني لذلك.. فما هي مقامات النبي وما علاقتها بالسلطات الثلاث للدولة الحديثة؟
تكلم بعض السلف عن مقامات النبي وناقشوها، وأكثر من اشتهر عنهم ذلك هم الفقيه الشافعي العز بن عبدالسلام، والفقيه المالكي القرافي، والفقيه الحنبلي ابن القيم، والفقيه المالكي الشاطبي، أما من الفقهاء المعاصرين فاشتهر عن الفقيه الأصولي ابن عاشور.
وقد حصر الفقيه المالكي “القرافي” مقامات تصرفات الرسول عليه الصلاة والسلام في أربع مقامات باعتبار الآثار الشرعية المترتبة عنها، وهي: “مقام تصرفه بالتبليغ”، وهو الوصف الغالب على سائر تصرفاته. و”مقام تصرفه بالإمامة”، و”مقام تصرفه بالقضاء”، و”مقام تصرفه بالفتوى”.
أما الفقيه والأصولي المعاصر محمد الطاهر بن عاشور فتكلم في كتابه “مقاصد الشريعة الإسلامية” عن مقامات النبي عليه الصلاة والسلام، وقد عدّ مقامات تصرفات الرسول عليه السلام بالإضافة إلى ما أورده “القرافي” وغيره اثني عشر حالاً-مقاماً وهي: “التشريع والفتوى والقضاء والإمامة والهدي والصلح والإشارة على المستشير والنصيحة وتكْميل الأنفس وتعليم الحقائق العالية والتأديب والتجرد عن الإرشاد”.
وأضاف المفكر المغربي علال الفاسي مقاماً آخر إلى المقامات السالفة الذكر عند “القرافي” و”الطاهر بن عاشور”، ألا وهو مقام “محمد الإنسان” أو “الشخص” المجرد عن الرسالة والنبوة، ويندرج ضمن هذه المقام صورتين: الصورة الأولى: الأفعال الجبلية العادية التي تقتضيها الحياة البشرية، كحالة الطعام والشراب واللباس والنوم والقيام والعقود والركوب ونحو ذلك، وهذا مما لا يطلب من المكلف القيام بمثله؛ لأنه جِبِلي. والصورة الثانية: الأفعال والاجتهاد الدنيوي غير المستند فيه على وحي؛ وذلك كالحيلة في الحروب وتدبير ضروب الفلاحة وطرق البناء ونحو ذلك، ويدرج ضمن هذه الصورة حديث تأبير النخل.
وكتب الباحث المغربي سعد الدين العثماني كتابا عن “تصرفات الرسول بالإمامة” كما كتبت بعض الدراسات المتأخرة التي اتسمت بطابع التجديد مثل ما كتبه كل من الباحثين السوريين الثلاثة محمد شحرور وعدنان الرفاعي وسامر إسلامبولي، والباحث اليمني عصام القيسي، ويكاد هؤلاء جميعا يحصرون مقامات النبي في ثلاثة مقامات، يتفقون في عناوينها ويختلفون في مضمونها قليلا أو كثيرا، والمقامات التي تحدثوا عنها هي: “مقام محمد الرسول” و”مقام محمد النبي” و”مقام محمد الإنسان”.
بعد بحث ذلك الموضوع واستفادة من جهد السابقين وصلت إلى تقسيم للمقامات هو أكثر دقة واتساقا لما يتعرض له من أسئلة. تقسيم يتفق في عنوانه إلى حد ما مع تقسيمات القرافي لكنه يختلف في حدود كل مقام، وربما اقترب في حدوده إلى ما كتبه المعاصرون مع فوارق مهمة..
فما خلصت إليه من تقسيم لمقامات النبي عليه السلام هو أن له مقامات ثلاثة هي: مقام الرسول، ومقام ولي، الأمر ومقام البشر، والاختلاف بين تلك المقامات الثلاثة يكون في درجة الإلزام وديمومتها، أما المقام الأول (الرسول) فهو ملزم لكل مؤمن بالرسالة في كل زمان ومكان، وأما المقام الثاني (ولي الأمر) فهو ملزم لكل مؤمن عاش مع النبي في زمنه فقط، وأما المقام الثالث (البشر) فهو خاص بالنبي وليس ملزما لأي أحد من المؤمنين سواء في زمنه أو غير زمنه.
والشاهد في هذا المقال هو مقام ولي الأمر والذي ينقسم إلى ثلاثة أقسام: مقام ولي الأمر ومقام القاضي ومقام المشرع.
1-أما مقام (ولي الأمر) فهي أقوال النبي وأفعاله في إطار ولايته لأمر المسلمين، فالقرآن الكريم نص على طاعة أولي الأمر، والنبي كان ولي أمر تلك الجماعة المؤمنة.. وهو ما سماه القرافي بمقام الإمامة.
2-أما مقام (القاضي) فهو المعني بفض الخصومات بين جماعة المؤمنين، وقد بينت الآيات أن مقامه ذاك مقام اجتهادي قد يصيب فيه وقد يخطئ، وإنما عليه أن يجتهد في تحري الحق ليحكم بينهم بالعدل.. وهو ما سماه القرافي بمقام القضاء.
3-وأما مقام (المشرع) فهو مقام مهم في تنظيم المجتمع، وهو إحدى لوازم وجود المباح، لأن المباح لا يمارس إلا مقيدا، لذا كان لابد أن يقيد المشرع بعض المباحات لتنتظم حياة الناس العامة.. وربما هذا المقام هو ما قصده القرافي بمقام الفتوى.
ومقام المشرع هذا ربما هو أكثر المقامات خفاء عند من درس مقامات النبي عند المعاصرين، ومنه نشأ الاختلاف في كون النبي مشرعا بجوار القرآن أم لا، وفي اعتقادي أنه كان يشرع في إطار تقييد المباح، وهذا ما جعل بعض الفقهاء يقولون بأن من حق ولي الأمر أن يقيد المباح، فالنبي كان يشرع فعلا، ولكن تشريعاته تلك لم تحفظ كما حفظ القرآن بنفس درجة التواتر وهذا يعني أنها تندرج ضمن مقام ولي الأمر لا ضمن مقام الرسول، وكثير من الآيات كانت تحيل التفصيل لولي الأمر أو للعرف ليتم اختيار الأنسب لهم في زمنهم ومكانهم.
ولو تأملنا في مقام ولي الأمر بأقسامه الثلاثة فإننا سنجد أن “السلطة السياسية” اليوم بأقسامها الثلاثة هي من تتولى ذلك، فــ”السلطة التنفيذية” هي من ترث “مقام ولي الأمر”، و”السلطة القضائية” هي من ترث “مقام القاضي”، و”السلطة التشريعية” هي من ترث “مقام المشرع”، فالسلطات الثلاث هي الملزمة لنا اليوم، لأن لكل زمان ومكان سلطته، ومن تلك السلطات الملزمة السلطة التشريعية، التي تشرع للناس وتقيد المباح وتضمن لهم تحقيق المصالح ودرء المفاسد، فتشريعاتها ليست خالدة ودائمة، كما أنها ليست شركا في التشريع كما يقول ضيقو الأفق، لأننا بحاجة لمشرع، والسلطة التشريعية هم أهل الشورى الذين أعاد الله لهم المشاورة مع ولي الأمر، وهم الذين ورثوا من النبي هذا التشريع من “مقام ولي الأمر”، وهو مقام تتغير فيه سلطة الإلزام إلى كل ولي أمر في كل زمان ومكان.
ولو تأملنا تاريخ الخلفاء الراشدين الذين ورثوا عن النبي هذا المقام فقط (ولي الأمر بأقسامه) لوجدنا أنهم كانوا فور بيعة الناس لهم يعينون لهم قاضيا، تكون له صلاحيات في الحكم حتى على الخليفة ذاته، ونلاحظ أنهم فقط كانوا يقومون بدور التنفيذ، أما دور التشريع فكان يقوم به نخبة الصحابة الذين كان لديهم القدرة على الاستنباط وإصدار الرأي.
ماذا لو أن هذا المبحث الأصولي قد أخذ حظه في البحث وتطور عند السلف، هل كنا سينصل لتقسيم الدولة الحديثة للسلطات الثلاث قبل أن تصل له أوروبا، أم أن التراجع الحضاري قد انسحب على كل المجالات فتأخرنا بعد أن كنا قد تقدمنا بضع خطوات في هذا الموضوع؟!
المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور”.