تدخل التغريبة اليمانية فصلاً جديداً من فصولها المأساوية التاريخية، جراء الاجراءات التي أتخذتها السلطات السعودية مؤخراً تجاه المقيمين على أراضيها تدخل التغريبة اليمانية فصلاً جديداً من فصولها المأساوية التاريخية، جراء الاجراءات التي أتخذتها السلطات السعودية مؤخراً تجاه المقيمين على أراضيها من جنسيات عدة، غير أن اليمنيين كانوا الأكثر تضرراً بعد أن أستقروا هناك لزمن طويل نشأت خلاله أجيال وأجيال من “أبو يمن” وبعد أن ظنوا أنهم صاروا جزءاً حميماً من النسيج الاجتماعي والاقتصادي السعودي الذي غزلوه وحبكوه بالتعب والمكابدة أكثر مما فعل كثير من أبناء البلد الأصليين!
ومؤخراً عادت أعداد عديدة من عائلات المغتربين اليمنيين في السعودية إلى أرض الوطن، فيما أختار آخرون ترحيل عائلاتهم إلى بلاد عربية أخرى كالأردن ومصر والسودان بسبب سوء الأوضاع الأمنية والاجتماعية والمعيشية في الوطن جراء الحرب المندلعة حتى اللحظة ولأمد غير منظور. كما عاد مغتربون طالت اقامتهم في السعودية لعدة عقود، رجعوا بعدها للبدء من جديد ببناء مستقبل شخصي وعائلي غير محسوب المصير ولا معروف العواقب.
حتى أولئك الذين أستطاعوا تدبير أمورهم لناحية تحقيق بعض المدخرات المالية لتنفيذ مشروع ما، يضمن لهم ولأهلهم حياة كريمة ومستقرة ، أصطدموا بحالة اقتصادية واستثمارية بالغة السوء ووضع نقدي بالغ التدهور في ما يتعلق بحالة صرف العملة الوطنية في مقابل العملات الصعبة، الأمر الذي زاد من سواد المشهد في عيونهم وحطّم آمالهم في أمكان ضمان مستقبل آمن لهم ولأولادهم ، وغيرها من العوائق التي وضعتها أمامهم هذه الحرب القذرة.
في صيف 1990 وأثر الغزو العراقي للكويت واندلاع حرب الخليج الثانية، أضطرت أعداد كبيرة من المغتربين اليمنيين في الكويت والسعودية إلى العودة الى الوطن -فرادى وعائلات- فأصطدموا بواقع مأساوي بل بالغ المأساوية، جراء عدم استعداد الدولة الوليدة الموحدة للتوّ استقبالهم بهذه الأعداد الهائلة. ورأينا يومها كيف صار عديد من المغتربين الميسورين إلى قبل أسابيع- شحاذين بين يوم وليلة، يضطرون إلى بيع كل متاعهم بأبخس الأثمان وتزويج بناتهم بأخفض المهور، وبرغم ذلك لم يسلموا من المذلّة والهوان في وطنهم بعد أن ذاقوها في بلاد المهجر!
…
منذ أن تهدّم سد مارب -بفعل فأرة صغيرة، أو تنظيم ارهابي، لا فرق!- عرف التاريخ اليمني لأول مرة مفردات: الهجرة والغربة والترحال والاغتراب.. ودخلت القاموس السايكلوجي للانسان اليمني مشاعر الحنين إلى الوطن بشتى تلاوينها.. وهكذا غدت الهجرة والغربة ديدن اليماني منذ قديم الزمان بعد أن “تفرّقت أيدي سبأ” ولم تزل تتفرّق وتهيم على وجهها في الأرض المنبسطة على الجرح والألم والمعاناة التي لم تبرأ يوماً قط.
حين يهاجر “أبو يمن” فهو يعملها عن واعز بالغ الشدة أو سبب فادح الاكراه، فاقة صعبة الاحتمال أو ضيم شديد القسوة، وهي وغيرها عوامل أجبرت اليماني على شدّ الرحال والايغال في الاغتراب، وأراها ستستمر على اجباره مدى العمر، فالفقر والظلم وتوابعهما من أقدار اليماني منذ الأزل وإلى الأبد. وهو تنقّل -وسيظل- من أقصى شمال الأرض وشرقها إلى أدنى جنوبها وغربها، غير أن الغربة ستظل كُربة بالضرورة طوال هذا الترحال المرير.
وبرغم أن الغالبية الغالبة من اليمنيين مغتربون أصلاً داخل وطنهم، غير أن الغربة خارج الوطن أشد مرارة وأقسى وطأة في ظل الحرمان من رؤية ومعايشة انسان الوطن وأشيائه، ناهيك عن الأهل ورفاق الطفولة ومدارج الصبا.. وقد بات كل من يلقى مغترباً يمنياً يلقى لديه تاريخاً ثقيلاً من الحزن والمكابدة والتمزق الروحي، نازفاً روحاً وجسداً ومُسطّراً ملاحم شقاء وصبر ومعاناة.. وقد قال القائل في هذا المشهد:
“وا رحمتاه للغريب
ماذا بنفسهِ صنعا؟
فارق أحبابه، فما انتفعوا
بالعيش بعده.. ولا انتفعا!”
حقاً، وا رحمتاه لليماني في تغريبته التي لن تصل يوماً ابداً إلى برّ الأمان!
المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور”.