هل تنجز الرواية العربية صعودها، اليوم، مكتفية بأسباب ذاتية، كما لو كانت تنصاع إلى فرضية “التوالد الذاتي؟ يحتمل السؤال، الذي يبدو للبعض مستفزاً، إجابة أولى مستريحة ومطمئنة عنوانها: نعم، و”النعم” هذه لها مبررات متعددة النوافذ: الجوائز الموسمية التي تغدق على الروائيين، التي ترعاها أكثر من سلطة عربية، وصعود الرواية إعلامياً، مقارنة بالشعر والقصة القصيرة والمسرح والنقد الأدبي، وانتقال شعراء عرب مرموقين إلى كتابة الرواية، وتدشين نهائي لمرحلة “ما بعد محفوظ”، وتمدّد حيز الرواية الجغرافي الذي شمل الأقطار العربية جميعاً.
تسوّغ هذه العناصر الحديث عن جنس أدبي صاعد، له أسماؤه الشهيرة وضوضاءه الإعلامي، وندواته، وجديده في الشكل واللغة، بعيداً عنه زمن جبران والمنفلوطي وهيكل، في لحظة أولى، وعن محفوظ وما بعد محفوظ، في لحظة ثانية، ما سمح للبعض أن يتكلّم عن عالمية الرواية العربية وحضورها الكوني والوقوف، قريباً، على أعتاب جائزة نوبل.
بيد أن هذه “النعم”، التي لها ما يسوّغها، لا تلبث أن تصطدم بسؤال نظري وتاريخي: هل تنجز الرواية العربية صعودها، اليوم، مكتفية بأسباب ذاتية، كما لو كانت تنصاع إلى فرضية “التوالد الذاتي”، أم أن عليها أن تظل مقيّدة إلى شروط اجتماعية وثقافية حكمت، تاريخياً، صعود الرواية، عربية كانت أم غير عربية؟ ذلك أن الرواية علاقة اجتماعية حيّة، لا تستطيع التحرّر من علاقات اجتماعية “حيّة” بدورها.
يقول هنري جيمس في مساهمته النظرية الشهيرة: الفن الروائي، التي أخذت شكل محاضرة في المعهد الملكي بلندن عام 1884 جاء فيها: “الرواية شيء حي، شيء واحد متصل، مثل أي كائن حي آخر، وبقدر ما تكون حية، بقدر ما نجد، في رأيي، أن في كل جزء من أجزائها شيء من كل الأجزاء الأخرى…” (نظريات الرواية في الأدب الإنجليزي، القاهرة، 1994، ص: 84). ليست الإحالة على هنري جيمس أمراً هاماً في ذاته، لولا اعتباره، وبسبب مداخلته هذه، مؤسس النقد الروائي الإنجليزي الحديث. فما قبله كان انطباعات عامة، كما قيل، وما جاء بعده ارتكن إليه.
يتراءى ما قال به جيمس في كتاب أرنولد كيتل: “صعود الرواية الإنجليزية”، الذي ربط كل سبب اجتماعي حي بآخر غيره حي بدوره، وتأمل الأسباب في مجتمع حديث، يستولد الرواية من شروط وجودها الموضوعية: ظهور المدرسة وتوسع التعليم، الفضاء الديمقراطي المجتمعي الذي يعترف بالإنسان المفرد ويسمح لمتخيله بالانعتاق، دور الصحافة كثقافة يومية متنوعة، تدرج في صفحاتها مساهمات روائية في النقد الروائي مادة صحفية، الإصلاح اللغوي الذي وضع في متناول الناس جميعاً لغة يفهمونها، وتكوّن فئة اجتماعية قارئة، تجمع بين الفضول المعرفي و”اليسر الاقتصادي” النسبي، السوق التي حوّلت الرواية إلى سلعة، قابلة للبيع والشراء…، إضافة طبعاً إلى انحسار الموانع والنواهي والرقابة الشديدة، وإن كانت رواية “عشيق الليدي تشاترلي” وجدت معترضين عليها، ولو إلى حين…
استولد كيتل، بشكل واضح، أو مضمر، الرواية من شروطها الاجتماعية، واستولد معها قارئاً “مجتمعياً موسعاً”. وعلى الرغم من فروق كثيرة، لا ضرورة للتوقف أمامها، وفجوة زمنية واسعة، فإن مقولات علم اجتماع الرواية، التي تعالج الإنتاج والإستهلاك، تنطبق، ولو بشكل نسبي، على بدايات الرواية العربية، التي ولدت، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، متثاقلة، متلعثمة، متباطئة، وسارت عقوداً، قبل أن تستطيع الوقوف.
أسباب متداخلة أسهمت في ولادة الرواية العربية ونشأتها: الترجمة والانفتاح على الآخر، البعثات الدراسية، استنهاض اللغة العربية، ولادة الصحافة، الدعوة إلى التحرر من الاستبداد التي اتخذت من القاهرة مركزاً لها، اقتراب القاهرة وبيروت من ظواهر حداثية غربية، دعوات إلى الإصلاح الديني، ظهور المثقف الحديث، الذي يدعو إلى التعليم والرواية والسياسة إلى التحرر الاجتماعي والوطني….
قد يبدو الحديث السابق، في علاقته بوضع الرواية العربية اليوم، شكلانياً لا ينقصه الاصطناع، وهو انطباع لا صحة فيه، ذلك أنه يعترف بحضور الرواية الواسع، وبطغيانها على أجناس أدبية أخرى، وبانتقالها من الفضاء المحفوظي إلى غيره، وبوفود شعراء مرموقين إليها (أمجد ناصر، وعباس بيضون وعبده وازن) وإنجازهم روايات متميزة. مع ذلك فإن القارئ، أو الناقد، أو المستمع يحق له أن يسأل: ما الذي يبرّر صعود الرواية العربية اليوم قياساً بمعايير نقديه سابقة؟ وهل هناك تغيّر موافق في الشروط الاجتماعية يؤمن صعودها، أم أن الأخير يرتبط بجمهرة واسعة من الكتاب “تستقوي على الكتابة الروائية” بلغة المصرية مي التلمساني؟ وإذا كانت الرواية العربية ممارسة حداثية، تحتفي بالمتخيل، وتساوي بين الرجل والمرأة، وتبتعد عن التقرير وتميل إلى التأويل، وتعلن عن “عروبة” مجلاها لغة عربية يأخذ بها جميع الروائيين، فهل من مرجع عربي مشخّص يشهد على ذلك؟ أو: هل بإمكان جنس كتابي حداثي أن يزدهر في فضاء اجتماعي لا حداثة فيه؟ وما هو شكل الصعود في فضاء عام سمته الهبوط، كما يرى البعض؟
لا مكان لجواب أخير، يدعي الحكمة. فقد يقال إن في أحوال الرواية العربية ما يذكّر “بالربيع الزائف”، وهو كلام لا معنى له، فهي قائمة، متمكنة، متوسعة، وربما يقال: “إن ما يسطّره الإعلام لا تنصره الحقيقة، وهو كلام لا يقل عمومية عن سابقه. وهناك طرف ثالث يجتهد ويقرّر: إن الرواية كونية، ولا تشترط الهوية الثقافية، وبعض الروائيين يكتب عربياً وكونياً معاً، حال إلياس خوري وهدى بركات وغيرهما!
تظل الإجابة قلقة، وتستدعي أولاً: مصطلح “التسليع الثقافي في السوق الليبرالية”، حيث تغدو الرواية، كما أشكال أخرى من الكتابة، سلعة يسهم في “صعودها” الإعلان والتلفزيون والقنوات الفضائية، لا فرق إن كانت مبدعة أو كتابة فقيرة. يكتمل المصطلح الأول بآخر: اغتراب الإبداع وسطوع الكم والتسليع، ما يربك الرواية والتقويم ويساوي بين الروايات جميعاً، لزوماً، قيمة الإبداع الحقيقي والكتابة النوعية، ولا يقدّم صورة فعلية عن الروايات العربية المبدعة.
نرجع إلى هنري جيمس من جديد، ليستكمل ما بدأ به ويستدرك الناقص فيه: “من السهل أن يخيّل إلينا” نظراً لوجود هذا العدد الضخم من الأعمال الروائية – أن السلعة التي يمكن إنتاجها بهذه السرعة، وبهذا اليسر لا يمكن أن تكون ذات قدر عظيم. وأن الروايات الجيدة تتعرّض للظنون والشكوك بسبب الروايات الرديئة. وأن الحقل الروائي بوجه عام يقاسي وتتأثر سمعته من جرّاء ازدحامه الشديد. وأنه ثبت بالفعل أن الرواية أكثر تعرّضاً للسوقية من بعض الأنواع الأخرى. ص: 76.
قرّر الروائي الإنجليزي الكبير أن الكم الرديء يحاصر الكيف الجيد، وأن الحقل الروائي المتجانس لا وجود له، وأن كل صعود يحايثه هبوط، هو جزء منه ومكمّل له.
يستطيع القارئ أن يسأل: ما الفرق بين صعود جيد وصعود رديء، وهل هناك صعود هابط لا يعرف الفرق بين التنافس و”التزاحم”؟ وما هو هامش الكتابة الروائية العربية في مجتمع تكتسحة “ثقافة الجماعات”، تجتمع في الوضع الراهن للرواية العربية أسباب متداخلة، تحتضن الرغبة في الإبداع، والاعتراف بكونية الكتابة والتحفيز “الجوائزي”: دون أن يلغي ذلك بعداً مربكاً، واسع الأطراف، يؤكد أن للإبداع الروائي الحقيقي شروطاً اجتماعية تحض على الإبداع وقراءتهَ!
ملاحظة أخيرة: هل تصعد الرواية العربية كيفاً، أم أنها تتمدّد كماً؟
نقلا عن المنبر العربي الثقافي “ضفة ثالثة”