نصل بهذا المقال إلى آخر ما يستدل به القائلون بأن السحر استخدام للجن في أذية الإنس، من خلال تلبسهم بالإنسان والتحكم به نصل بهذا المقال إلى آخر ما يستدل به القائلون بأن السحر استخدام للجن في أذية الإنس، من خلال تلبسهم بالإنسان والتحكم به، ومما استدلوا به في هذا الموضوع ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)، وهذا الحديث –إن صح- يعتبر صورة مجازية لمدى ما يمكن أن يقوم به الشيطان من وسوسة، ولا صلة له باحتلال الشيطان جسم الإنسان، وللحديث مناسبة تؤكد هذا المعنى، حيث تحكي الرواية أن أم المؤمنين صفية بنت حيي قالت: “كان رسول الله معتكفا فجئت أزوره ليلا فحدثته، ثم قمت إلى بيتي فقام النبي يمشى معي مودعا، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي أسرعا! فقال لهما: على رسلكما انها صفية بنت حيي…قالا: سبحان الله يا رسول الله، قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم, فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً أو قال شراً”.
وإنكار حقيقة السحر واعتبار أن ما ذكره القرآن هو سحر الوهم والخداع فقط قديم في تاريخنا الفكري، حيث أنكرت المعتزلة حقيقة السحر، ودخلت في صراع فكري مع أهل السنة حول ذلك، وممن أيد المعتزلة الإمام أبوحنيفة والإمام أبو إسحاق الإسترتبادي من أصحاب الشافعي، ثم أيدتهم مدرسة التجديد المعاصرة ابتداء بالشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضا ومن جاء بعدهم.
وقد حاول المعتزلة قديما أن يقدموا تفسيرا لما يحصل لحال أناس اختلت عقولهم، بأنهم قد يكونوا تناولوا موادا أفسدت عقولهم. يقول الزمخشري: “النفث النفخ مع ريق، ولا تأثير لذلك، اللهم إلا إذا كان ثمّ إطعام شيء ضار أو سقيه أو إشمامه، أو مباشرة المسحور به على بعض الوجوه”( ).
وكأن الزمخشري هنا يشير إلى ما يسمى اليوم بالمخدرات سواء منها ما يشرب أو يطعم أو يشم، وهذا المواد يسبب إدمانها إلى اضطراب ذهاني.
فالمخدرات هي مجموعة من المواد طبيعية كانت أو صناعية تذهب العقل وتؤثر سلباً علي الحواس وتتسبب في حدوث خلل بالمخ، وهذه المواد المخدرة تؤدي إلي تبديل المزاج وتغير المشاعر وتبدل السلوك نتيجة للتغير والخلل الحاصل في خلايا المخ.
وختاماً في نهاية هذه السلسلة أحب التأكيد على أن المنهج العلمي السليم في حالة سكوت النص القرآني أو ظنية دلالته على مسألة غيبية هو التوقف حتى لا ندخل في عالم الخرافة، وقد لاحظنا من خلال الحلقات السابقة أنه لا توجد آية صريحة تفسر السحر بأنه استخدام للجن للإضرار بالإنس، بل إن الآيات حصرت علاقة الشياطين بالإنس في الوسوسة والتزيين والوعد الكاذب فقط، وأي زيادة على ما حصرته هو اختلاق يدخلنا في مزيد من الخرافات، ولا يخفى ما يعمله تراكم الخرافات على العقل الإسلامي من تخلف وتراجع عما وصل له العلم الحديث من كشف للسنن والأقدار في الكون، ومن ثم التعامل الحكيم معها.
إن الخرافات والأوهام أشبه ما تكون بالفيروسات التي تتراكم على جهاز الكمبيوتر، فإن كان كثيرة أوقفته عن العمل وتعطل، وإن كانت قليلة أثقلته وجعلت عمله بطيئا، وكلما كانت الفيروسات أقل كانت سرعته أكبر، وكذلك الخرافات والأوهام في العقل.. ولو أن العلم استسلم لتلك التفسيرات الخرافية للأمراض الجسدية والنفسية ما تقدم خطوة في مجال الاكتشافات والاختراعات التي وصلت لها البشرية اليوم، إذ الاستسلام لتلك التفسيرات الخرافية يجعل العقل متوقفاً عن البحث في الأسباب، ويكتفي بنسبتها إلى عوامل غيبية، إضافة إلى ما تخلقه تلك الخرافات من معارك خاطئة ضد التفسيرات العلمية فتجعل المجتمع في حالة صد وصراع مع العلم بدل أن يكون مبادراً للاكتشاف والاختراع.
أما إذا سكت القرآن عن شيء وتحدث عنه العلم فإننا ملزمون بتوجيه القرآن ذاته أن نستمع لما يقوله العلم ” فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا”، والخبير في مثل موضوعنا هو الطب النفسي، فما الذي يقوله الطب النفسي في تفسير تلك الحالات؟
إن التفسير العلمي لما يسميه الناس سحراً أو جنونا، هو أنها اضطرابات نفسية ذهانية يأتي على رأس قائمتها اضطراب “الفصام” والذي تقدر نسبته في السكان بــ 1%، تشمل المتدينين وغير المتدينين، ويتوزع في العالم بنسبة شبه متساوية.
ومرض الفصام: اضطراب نفسي يتسم بسلوك اجتماعي غير طبيعي وفشل في تمييز الواقع، تشمل الأعراض الشائعة الأوهام واضطراب الفكر والهلوسة السمعية والبصرية بالإضافة إلى انخفاض المشاركة الاجتماعية والتعبير العاطفي وانعدام الإرادة. وغالبًا ما يكون لدى المصابين بالفصام مشاكل نفسية أُخرى مثل اضطراب القلق والاضطراب الاكتئابي واضطراب تعاطي المخدرات، وعادة ما تظهر الأعراض تدريجيا، حيث تبدأ في مرحلة البلوغ، وتستمر لفترة طويلة.
قد يعاني الشخص الذي تم تشخيص حالته بالفُصام من هلوسة (أغلبها سماع أصوات) وأوهام (يتصف غالباً بالغرابة أو ذو طبيعة اضطهادية) وكلام وتفكير مضطرب. يمكن أن يتراوح الأخير من فقدان تتابع الأفكار إلى ضعف ترابط الجمل من حيث المعنى وإلى كلام غير مفهوم في الحالات الخطيرة. ومن الأعراض الشائعة عند الإصابة بالفُصام، الانسحاب الاجتماعي وعدم الاهتمام بالملبس أو النظافة الشخصية والافتقار إلى الحافز والقدرة على تقدير الأمور.
أما أسباب هذا المرض فيقول الدكتور أحمد عكاشة: “لا نستطيع الجزم بسبب واحد لهذا المرض، بل هو عدة تفاعلات بيئية ووراثية وفسيولوجية وكيميائية، وكل عالمٍ يؤمن بسيادة أحد الأسباب على الأخرى حسب مدرسة الطب النفسي التي ينتمي إليها “.
ومن الأشياء التي يؤكد عليها الأطباء النفسيون أن تأخر عرض من يحدث له أعراض هذا الاضطراب النفسي على الطبيب النفسي بالذهاب لمن يفك السحر من المشعوذين أو المعالجين بالقرآن يعني مزيدا من التدهور للمريض وبالتالي تأخر مفعول الدواء، وكم من الحالات جربت أولئك المشعوذين والمعالجين ثم لما وجدت تأثير العلاج النفسي على مرضاهم اقتنعوا بأنه الطريق السليم، ولكن غالب تلك الحالات تأتي متأخرة، فمتى يعي المجتمع تلك المشكلة ويذهب مباشرة للطب النفسي.
علماً بأن مستشفيات الطب النفسي لا تعتمد فقط على الدواء في علاج ذلك الاضطراب، وإنما تعتمد منظومة من العلاجات، منها العلاج النفسي التي يعالج الاضطرابات السلوكية والوجدانية وضعف المهارات الاجتماعية عند المريض، والعلاج الأسري عبر التواصل مع أهالي المريض لتوضيح طبيعة المرض لهم وحل مشاكله مع أفراد عائلته. والعلاج المعرفي الذي يعالج اضطرابات التفكير من خلال مناقشة الأفكار اللامنطقية وتغييرها بأفكار ومفاهيم منطقية في التعامل مع الحياة، كما تستخدم أيضا العلاج الروحي الذي يقوي من إرادة المريض لمواجهة مرضه بإرادة عالية، ويصبره على ذلك الابتلاء حتى يزول، وزرع الطمأنينة النفسية من خلال الثقة والإيمان بالله.
المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور”.