الحنين إلى الوطن وأنت داخل الوطن هذا هو الشعور الأصعب على الأطلاق. سوء حظي أو سوء الأحوال الجوية الذي جعل أول يوم لي في مأرب يصادف هبوب سحابة رملية كثيفة وخانقة..
أقرب ما أرى عبرها هو اغترابي داخل وطني؛ فقد حجب غبار الصحراء الرؤية كما حجبت مليشيا غبار التاريخ، التفاؤل بغدٍ أفضل يكون فيه الأمان ولو مجازا.
فالأوطان التي تحتل الحرب شبرا منها تشتعل كأعواد الثقاب المتجاورة.
يضيق صدري فلا أدري أمن كمية التراب الذي أستنشقه مع أنفاسي، أم كمية الشوق لذكرى مسقط رأسي؛ فحتى الذكريات تكون عابقة وخانقة كلما صارت بعيدة تتطاير كهذا الغبار في الذاكرة.
الحنين إلى الوطن وأنت داخل الوطن هذا هو الشعور الأصعب على الأطلاق.
وطن تضاريسه كالحة على البسطاء؛ تقلباته قاسية وصعبة لا يحيا فيها سوى الهوامير الكبيرة والافواه الواسعة القادرة على ابتلاع كل شيء بما فيهم البشر.
مثل هذه الأفواه فقط تنشب أظافرها في الشرعية أو في الانقلاب.
أما البطون الجائعة فلا تعرف شرعية سوى شرعية الرغيف ولا تعرف انقلابا سوى انقلاب الجوع..
الفقر والصمت يزحفان إلى كل البيوت ماعدا بيوت رعاة الحروب؛ البطون الجائعة ليست علامة صمود ولكن دليل خوف شنيع.
لم نعد نسمع سوى شعارات الصمود منقطع النظير من الطرفين؛ إنه صمود الأموات فقط.
فالحروب حين تأتي تصطحب معها الجوع والمرض؛ ثلاثي متناغم ومتواطئ ضد الإنسان.
ربما هو تنوع الموت؛ فحتى الموت على نمط واحد يثير الملل.
النازحون في مناطق الشرعية يتقاسمون الجوع والموت ذاته الذي في مناطق الانقلاب.
ربما هما القاسم المشترك بين هذا الشعب على طول وعرض جغرافيته الصامدة عنادا.
في مأرب يتظافر عليك الجو والجوع والخوف من المجهول؛ مدينة تنتشلك من نفسك فلا وقت للتباكي على شيء خلفك..
ستدوسك أقدام الحياة المهرولة في سرعة نحو العمل بلا كلل.
تستقبلك مدينة مكتظة بالزحام تنمو سريعا كأشجار الأساطير؛ عالم يلتهم كل شيء بنهم..
يلتهم الفرح والحزن والخوف والتفاؤل.. الكسل والتردد.
مأرب التي تقاطر إليها كل المقهورين كجزيرة ناجية من غرق؛ حتى أولئك الذين شيطنوها وأمعنوا في تشويه حاضرها فباغتهم ماضيها العريق ومستقبلها الموعود.
مأرب التي ظلت في عيون البعض صحراء وأهلها بدو يقطعون خطوط الكهرباء والغاز ويخطفون السياح،صارت جزيرة النجاة لهذا الوطن؛ وأهلها أهل الكرم.
الآن تزدهر بالعمران وبناء المرافق التي تزداد كل يوم؛ وتتفرع الشوارع كشرايين في جسدها الفتي القوي؛ تكبر في قلوب اليمنيين كما يكبر حلم الدولة الحرة.
جاء اليوم الذي تشرب فيه مأرب الكابيتشينو وتعيد حضارة الأجداد؛ الآن هي الأمل ونواة البناء للمستقبل..
مأرب التي اكتظت فجأة بما يقارب اثنين مليون نازح استوطنوها على شحة من الامكانات جعلها كعنقاء استيقظت وفردت جناحاها بين رمال الصحراء.
المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور”.