كتابات خاصة

أوهام الناس في السحر (4)

عبدالله القيسي

قال العلامة رشيد رضا في تفسير المنار: “وأما قيام آكل الربا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس فقد قال ابن عطية في تفسيره،: المراد تشبيه المرابي في الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقال لمن يصرع بحركات مختلفة: قد جن.

تحدثت في المقالات السابقة من هذه السلسة عن معنى السحر في القرآن والقضية المزعومة من سحر يهودي للنبي عليه السلام وعن رؤية القرآن لعلاقة الجن بالإنس، وعن ما صار منتشرا من عيادات باسم العلاج بالقرآن، وأقف في هذا المقال عند مستند آخر يستند إليه من يرون في السحر تغيير لحقائق الأشياء واستخدام للجن في الإضرار بالإنس.

من الآيات التي يرونها دليلا على ما ذهبوا إليه في السحر قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ البقرة: 275.
لفهم هذه الآية نحتاج التوقف لبيان القيام، والتخبط، ومس الشيطان.
أولا: القيام: اختلف المفسرون في قوله “يقومون” هل هو في الدنيا أم في الآخرة؟
قال العلامة رشيد رضا في تفسير المنار: “وأما قيام آكل الربا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس فقد قال ابن عطية في تفسيره،: المراد تشبيه المرابي في الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقال لمن يصرع بحركات مختلفة: قد جن.
أقول (أي رشيد رضا): وهذا هو المتبادر ولكن ذهب الجمهور إلى خلافه وقالوا: إن المراد بالقيام القيام من القبر عند البعث، وإن الله تعالى جعل من علامة المرابين يوم القيامة أنهم يبعثون كالمصروعين، ورووا ذلك عن ابن عباس وابن مسعود بل روى الطبراني من حديث عوف بن مالك مرفوعا: إياك والذنوب التي لا تغفر: الغلول فمن غل شيئا أتي به يوم القيامة، والربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط.
ثم قال: والمتبادر إلى جميع الأفهام ما قاله ابن عطية لأنه إذا ذكر القيام انصرف إلى النهوض المعهود في الأعمال، ولا قرينة تدل على أن المراد به البعث، وهذه الروايات لا يسلم منها شيء من قول في سنده، وهي لم تنزل مع القرآن، ولا جاء المرفوع منها مفسرا للآية، ولولاها لما قال أحد بغير المتبادر الذي قال به ابن عطية إلا من لم يظهر له صحته في الواقع.
ثم قال: وكان الوضاعون الذين يختلقون الروايات يتحرون في بعضها ما أشكل عليهم ظاهره من القرآن فيضعون لهم رواية يفسرونه بها، وقلما يصح في التفسير شيء كما قال الإمام أحمد، انتهى.
وعلى هذا الاختيار يكون المراد بالقيام في قوله تعالى: لا يقومون إلا كما يقوم، هو الاستواء على الحياة والقيام بأمر المعيشة، وهو معنى من معاني القيام جاء في عدة مواضع في القرآن، قال تعالى: ﴿ليقوم الناس بالقسط﴾ الحديد: 25، وقال تعالى: ﴿أن تقوم السماء والأرض بأمره﴾ الروم: 25، وقال تعالى: ﴿وأن تقوموا لليتامى بالقسط﴾ النساء: 127.
ثانيا: التخبط: أطلق التخبط على اضطراب الإنسان من غير اتساق، وتخبط الشيطان المرء جعله إياه متخبطا، أي: متحركا على غير اتساق. (التحرير والتنوير)
ثالثا: مس الشيطان: والآية هنا تنسب المس للشيطان لا للجن كما يزعمون، وإذا أردنا أن نفهم المعنى القريب للمس في هذه الآية، علينا أن نقرأها في سياق آيات أخرى ذكرت مس الشيطان، إذ هناك آيتان تذكران لنا مس الشيطان ولكن المفسرين لم يفسروهما بالجنون ولا بدخول الجان في الإنس، يقول تعالى عن النبي أيوب: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ ص:41، فنسب أيوب الضر للشيطان إما من باب التأدب مع الله بنسبة الخير لله والشر للشيطان، وإما لأن الشيطان بوسوسته لأهله قد أدى لوقوعه في النصب والعذاب، فأدى للتفريق بينه وبين وزوجه، وأفسد بينهما، وذلك هو كل ما يستطيعه الشيطان، يقول تعالى: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾ الأنبياء: 83، أي أنه أصابه الضرر والمرض فدعا ربه ليشفيه، فاستجاب له ربه وكشف عنه الضرر، وأصلح الله ما بينه وبين أهله، أي زوجته.
أما الآية أخرى التي تذكر مس الشيطان ولم يفسرها المفسرون بالجنون أو باحتلال الشيطان للإنسان وإنما فسروا مس الشيطان بالوسوسة، فهي قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ ﴾ الأعراف 200، ففسروا الطيف بالوسوسة (انظر تفسير الطبري).
والقرآن –كما تحدثت في المقال السابق- يحصر عمل الشيطان في الوسوسة والتزيين ومحاولة الإضلال، ولا يذكر مطلقا احتلاله لجسم الإنسان. وأمام تلك الوسوسة جاءنا بالاستعاذة، يقول تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ فصلت:36، ونزغ الشيطان ليس سوى وسوسته، تلك الوسوسة التي تذهب مع ذكر الله، ولا يستطيع الشيطان أن يكون له سلطان على من يذكره ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ النحل: 98-100.
ولو كان مس الشيطان احتلالا للإنسان لما شاهدنا حالات من الاضطرابات النفسية (الفصام) والتي ينسبونها للجن قد حصلت لمتدينين ومؤمنين، بل وبعضهم في أعلى درجات التدين، فهل كان له سلطان على أولئك والآية تقول ليس له سلطان عليهم!!
وخلاصة الآية أنها تشبه حال آكلي الربا الذين فتنهم المال واستعبدهم حتى صاروا مهووسين بجمعه، وجعلوه مقصودًا لذاته، وتركوا لأجل الكسب به جميع موارد الكسب الطبيعي، فخرجت نفوسهم عن الاعتدال الذي عليه أكثر الناس ويظهر ذلك في حركاتهم وتقلبهم في أعمالهم فلا يرون الحسن حسنا ولا القبيح قبيحا، وصاروا يشبهون البيع “الحسن” بالربا “القبيح”، وهؤلاء حالهم يشبه حال من استحكم عليه الشيطان بوسوسته وتزيينه فأصبح خاضعا له متخبطا وكأنه بلا إرادة.
المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى