تصادف هذا العام احتفالية اليوبيل الذهبي بمرور 50 عاما على حركة التمرد الطلابية العالمية التي بلغت ذروتها عام 1968، ولم تكن في أوروبا فقط، لكن شملت بلدانًا عديدة في العالم. تصادف هذا العام احتفالية اليوبيل الذهبي بمرور 50 عاما على حركة التمرد الطلابية العالمية التي بلغت ذروتها عام 1968، ولم تكن في أوروبا فقط، لكن شملت بلدانًا عديدة في العالم.
في كتابه الأخير “1968: الثوار الشباب، موجة تمرد عالمية” يرصد المؤرخ المتخصص في الحركات الاحتجاجية، البروفسور نوربرت فراي، أحداث ذلك العام ويفكك إرهاصات ما قبله على مستوى العالم.
وفي المركز الثقافي الألماني بالقاهرة (غوته) أقيمت، يوم 4 فبراير/ شباط، ندوة ومناقشة للكتاب على هامش فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب، بحضور المؤلف، والدكتور أنور المغيث أستاذ الفلسفة بجامعة حلوان ومدير المركز القومي للترجمة، وأدار الندوة محمد البعلي صاحب ومدير دار صفصافة للنشر، التي أصدرت الكتاب بالتعاون مع مركز غوته.
تكمن أهمية الكتاب في إعادة قراءة الأحداث السابقة بنظرة جديدة، بالإضافة إلى ملاحظة التغير الذي طرأ على العديد من الدول المذكورة في الكتاب، ومراقبة شكل التحول السياسي والاجتماعي الذي جرى فيها على مدار 50 عامًا.
لماذا عام 1968
في البداية تحدث فراي عن أسباب اختياره لعام 1968 تحديدا ليكتب عنه، قائلا إن الأحداث التي صاحبت هذا العام وسبقته شكلت نقلة مختلفة في تاريخ القرن العشرين بالكامل، لأنه في هذا الوقت بعد الحرب في ألمانيا، أصبح العقل يضع كل شيء محل تساؤل وتشكك، وفي لحظة ما من الزمن، شعر الشباب أن كل شيء ممكن. وهنا هو لا يتحدث فقط عن التاريخ القومي لألمانيا، لكن عن تاريخ عالمي من منظور عالمي.
يبدأ الكتاب بتقرير تاريخي عن حدث محدد وقع في باريس في يناير عام 1968، في الفصل الدراسي الشتوي، بأمسية تضم طلاب جامعة نانتير الفرنسية مع وفد من رجال الدولة، حين طلب مدخن شاب القداحة من الوزير فرانسوا ميسوف، الأمر الذي لم يكن يتعدى السعي إلى إجراء حوار مع الوزير، ولم يكن التمرد واردًا في الحسبان، غير أن رد فعل عميد الكلية هو ما أشعل الموقف وقتها.
يقول فراي إنه اختار أن يبدأ بالحدث الفرنسي بخلاف الترتيب الزمني للأحداث، لأن فرنسا كانت الأكثر شهرة تاريخيا في أحداث 1968، بالرغم من بدء الحركة بشكل مبكر قبل عام 1968 في الولايات المتحدة الأميركية، مع حركة الخطاب الحر التي قام بها الأميركان، ثم انتقلت إلى كل العالم بكل تجلياتها، مثل الاحتجاجات، والاعتصامات، والجلوس أرضا، كل هذه الأشكال من التمرد والاحتجاج، التي بدأت من الشباب البيض في الجامعات الأميركية النخبوية، من عاونوا الزنوج في التحرر من العنصرية، وضمان حقوقهم الانتخابية، واحتجاجهم على الفصل العنصري ضد السود. من هنا نشأت أولى الحركات الاحتجاجية الطلابية. لم يغفل فراي في الكتاب الاحتجاجات التي قامت ضد حرب فيتنام، والتي امتدت إلى خارج أميركا بعد ذلك. ويضيف فراي أنه نقل عبر الكتاب الحركات الاحتجاجية الطلابية في الستينيات بشكل عام، لتأثير تلك الحقبة العالمي، ليس سياسيا فقط، ولكن اجتماعيا وثقافيا أيضا.
إرهاصات ما قبل 1968
الكتاب بشكل رئيسي كُتب للقارئ الألماني، لأن ألمانيا مثلت حلقة مهمة في سلسلة الأحداث، بداية من تشكل وصعود اليسار الجديد في ألمانيا وإنكلترا، وحركة الطلاب الاشتراكية، التي كان لها تبادل ثقافي مع اتحاد الطلاب الاشتراكي في أميركا، وكل ما كان يدور في برلين وفرانكفورت آنذاك، خاصة بعد مظاهرة يونيو/حزيران 1967 التي قامت احتجاجا على زيارة الشاه إلى برلين، ووقعت خلالها ضحية واحدة برصاص الشرطة الألمانية، ما أشعل الحراك والتمرد، وحوّل تلك المجموعة اليسارية الصغيرة إلى حركة حاشدة خلال 10 شهور، لتصل الاحتجاجات إلى ذروتها في الخميس الأخضر، أول إبريل/ نيسان، وتبدأ أعمال العنف والتخريب المصاحبة للاحتجاجات.
لم يتغير النظام السياسي بعد حركة 1968 بشكل كبير، لكن تبع الحركة الاحتجاجية ظهور حركات تحرر نسائية، وحركات بيئية، وحركات تنادي بالسلام ارتبطت بالعام نفسه، ليظهر التغير الثقافي والاجتماعي، كنوع من التأسيس للديمقراطية الثانية في ألمانيا.
تتناول الفصول التالية في الكتاب الاحتجاجات في بلدان أخرى مثل اليابان والولايات المتحدة وإيطاليا وبريطانيا وهولندا، بالإضافة إلى فصل مخصص عن التحرك في أوروبا الشرقية ما وراء الستار الحديدي في تشيكوسلوفاكيا وبولندا وألمانيا الشرقية، وكلها تعتبر إرهاصات حدثت منذ منتصف الستينيات، حتى وصلت إلى ذروتها عام 1968.
فرنسا في أحداث 1968
في النصف الثاني من الندوة تحدث الدكتور أنور المغيث عن الجزء الفرنسي من أحداث 1968 بحكم ثقافته الفرانكفونية.
ويرى المغيث أن الكتاب يجمع ويحلل أحداثًا متفرقة على مستوى العالم، في كتاب واحد داخل حدث عالمي كبير، وكأن هناك صلة قرابة بين كل هذه الأحداث، ليبرز الكتاب صلات قرابة بين كل الأحداث من السطح، وأخرى في الكواليس تعمل بشكل خفي، في هذه البلاد المختلفة؛ الأمر الذي يسمح للقارئ بإيجاد واستكشاف صلات قرابة، ربما لم يشر إليها المؤلف، لنصبح أمام عمل تأريخي يمثل مادة خامًا للقارئ، ويساعده على اكتشاف تقاطعات مختلفة، تفتح آفاقًا متعددة. ومن أهم هذه التقاطعات، كما يرى المغيث، وجود تحركات ثورية واحتجاجية، في كل البلاد المذكورة في الكتاب، قبل أحداث 1968 بما يقرب من 10 سنوات، وكأن 1968 حصيلة مسار مستمر تقدم خلال فترة طويلة.
ومن ضمن العوامل المشتركة التي يراها المغيث أيضا في الحركات الاحتجاجية على اختلاف شعاراتها، استنكار حرب فيتنام، ووجود موسيقى البيتلز كثورة ثقافية وفنية آنذاك، ومحاولات الشباب في كل البلاد تمثل البيتلز في هيئتهم الخارجية، وطريقة ملابسهم، لتصبح موسيقى البيتلز رمزا ثوريا، تم منعه في أوروبا الشرقية في ذلك الوقت، بالإضافة إلى استنكار العنصرية، والعلاقات الإمبريالية بين حكام أوروبا، والحكام المستبدين للعالم الثالث.
يرى المغيث أن احتجاجات 1968 لم تكن فقط حركة تمرد سياسية، لكنها تتعلق أيضا بالحرية الفردية، والتخلص من أنواع مختلفة من السلطة، غير سلطة القضاء أو الشرطة أو الحاكم، لكن السلطات الاجتماعية، مثل سلطة الأب، أو المعلم أو المجتمع، ومن أجل التحرر من هذه السلطات الاجتماعية، جاء الاحتفاء بالجنس والمخدرات والموسيقى والرقص، كنوع من التمرد على السلطة الأبوية في الحياة اليومية.
أهم منظري وفلاسفة 1968
تطرق المغيث بعد ذلك إلى أهم منظري وفلاسفة حركة 1968 في فرنسا، الذين أثروا في تمرد 1968 وعاشوا بعد ذلك، لنتمكن من مراقبة تأثير الأحداث على أفكارهم في وقت لاحق. ومن أهمهم الفيلسوف الألماني الأميركي هربرت ماركيوز (1898- 1979) الذي ركز في طروحاته على نقد الرأسمالية وتجديد الخطاب الماركسي، واعتبر الطلاب والنساء والمهمشين والأجانب هم القوى الثورية الجديدة، كبديل للعمال الذين تم تطويعهم وتحقيق احتياجاتهم الأولية، للسيطرة عليهم من أصحاب المال.
ويذكر المغيث أيضا في نفس السياق الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1926- 1984) صاحب الجريمة والعقاب، وأول من أشار إلى توزع السلطة في البنى التحتية للمجتمع، في العمل والمدارس والبيوت. وهو ما دعا الباحثين إلى البحث عن طرق بديلة للتربية، التي تكرس للسلطة الأبوية، انطلاقا من فكر فوكو.
الفيلسوف والمنظر الثالث الذي ذكره المغيث كان جيل دولوز (1925- 1995) وهو الذي أشار فيما مضى إلى مفهوم الرغبة باعتباره دافعًا إلى الإنتاج، في نقض لتصور فرويد عن الرغبة باعتبارها مرضًا أو هاجسًا يجب التخلص منه، بل تقوم فلسفته على الاحتفاء بالرغبات، ويرى أنها سبب في الإبداع المستمر، ما أدى إلى تكوين مجموعات ثورية فرنسية باسم “الراغبون الفوضويون” يسعون إلى التصريح بكل رغباتهم بحرية، ضد قيود السلطة، وينزعون إلى الترحال والجنس والاحتفالات. ويضيف المغيث أن دولوز هو من عمل على نقل الثورة من المستوى الكتلي إلى المستوى الجزيئي الذي يغير صبغة الدولة وبناها التحتية بالتدريج، ليصبح التغيير الفعلي على المستوى الأصغر والأكثر دقة في العلاقات، ثم يتسع تدريجيا ليشمل شرائح وعلاقات أكثر اتساعا.
حال مصر ما قبل 1968
يذكر المغيث أنه بعد هزيمة 1967 كان هناك تجاهل لصوت الشباب، وشعور عميق راسخ داخلهم بالغدر. وفي يناير 1968 حدثت مطالبات بمحاكمة المسؤولين عن الهزيمة، فحدثت محاكمات لبعض قادة سلاح الطيران، ما اعتبره الشباب في ذلك الوقت محاكمات صورية لكبش فداء، بعيدا عن المتسبب الأصلي في الهزيمة. وبداية من 1968 بدأ تأسيس حركة ثقافية موازية للحركة الحكومية القومية، وتأسس اتحاد الكتاب المستقل، ومجلة “غاليري 68” برئاسة الناقد إبراهيم فتحي، وكتب فيها كل من جمال الغيطاني، وإبراهيم أصلان، ومحمد البساطي، ويحيى الطاهر عبد الله، وغيرهم من الكتاب الشباب أصحاب النزعة الماركسية، الممنوعين من النشر في المنابر الحكومية.
لم ينته الأمر على ذلك، لكن بحلول نوفمبر/تشرين الثاني 1968 حدثت مظاهرات حاشدة، احتجاجا على الحكم المتسلط وتجاهل جيل كامل من الشباب، ليبدأ جمال عبد الناصر بإصدار برنامج 30 مارس وتأسيس حركة طلابية مصرية، أغلب أعضائها أصحاب انتماءات ماركسية؛ لتكون تلك المجموعات من الطلاب هي الحلقة الوسيطة بين الثورة والعمال، وتصبح مصر جزءا من المشهد العالمي عام 1968.
تشابه مع ثورات الربيع العربي
يتفق البروفسور نوربرت فراي والدكتور أنور المغيث على تشابه أحداث عام 1968 مع ثورات الربيع العربي، حيث أن كلًا منهما لم تقم بتغيير جذري في الهياكل والبنى لمدة طويلة، لكنها تسببت بتغيرات اجتماعية وثقافية وفردية تعيدنا من جديد إلى مفهوم جيل دولوز عن التغير الجزيئي التدريجي.
أما فيما يخص اعتبار البعض الكتاب يؤرخ لعام 1968 بدرجة عالية من المركزية الأوروبية، ويتجاهل الاحتجاجات الطلابية في قارة أفريقيا بالكامل على سبيل المثال، فيقول فراي إن البحث حول هذا الكتاب بدأ منذ 10 سنوات، ولم تكن هناك معلومات متاحة عن أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية، بعكس الوقت الحالي الذي يقدم وفرة في المعلومات، بالإضافة إلى عدم تمكنه الشخصي من جميع اللغات، التي وثقت لمختلف الاحتجاجات في ذلك الوقت. ويؤكد أنه ربما يمكنه في حال توفر المعلومات، تقديم نظرة أشمل وأكثر اتساعا عن تاريخ الاحتجاجات الطلابية في عام 1968 وما قبله وما بعده.
نقلا عن المنبر العربي الثقافي ضفة ثالثة