فكر وثقافة

ساعات الأصيل

عزيز تبسي

لن يروا العابرين في الصباح فوق هذا الإسفلت، تلاميذ المدارس الحاملين على ظهورهم حقائبهم التي تحمل شعار منظمة “اليونيسيف”،
لا يمكن التمتع في المدن الواسعة بالمباغتة التي تصنعها الأرض كل يوم، بدورانها حول محورها وحول الشمس، لا يمنح أهل المدن الذين يكتفون بالدوران حول أنفسهم تلك البهجة، التي تصنعها هذه اللحظات الوداعية. الركض اللاهث على رصيف المحطات بمحاذاة حديد عربات القطار، والنقر على نوافذها، لتثبيت آخر صورة للمسافرين بصمغ الذكريات.
لا يبقى لهم، بما تبقى من ساعات النهار، سوى الانغماس في الأمكنة، حيث تتماوج في الشوارع أشكالاً متداخلة من اللهجات الشعبية مع مصابيح الكهرباء التي تضيء واجهات الحوانيت، رائحة الخوف المنبعثة من أسماك السلور وهي تتخبط بجذوعها القوية، تقايض بجرعات الهواء الساعات الأخيرة من حياتها، في قاع حديد الشاحنة التي حملتها من بحيراتها، مع نشارة الخشب التي تشبعت برطوبة الأحذية، بالأقسام الرخوة التي يدبجها الباعة للزبائن، بينما ينقلون بضائعهم من الصناديق إلى الموازين.

لن يروا العابرين في الصباح فوق هذا الإسفلت، تلاميذ المدارس الحاملين على ظهورهم حقائبهم التي تحمل شعار منظمة “اليونيسيف”، باعة السحلب، الحاملين أكداسا من الأوراق لإنجاز معاملات في المؤسسات الحكومية.

الخارجين من بنك الدم، الضاغطين بأصابعهم على قطنة فوق الوريد المبزول، الذين تبرعوا بما لا يملكون غيره، ويجهلون إلى أي قلوب ستمضي دماؤهم.

لكن يمكن رؤية المرأة العجوز المنحنية على صفيحة مازوت، ويمكن كذلك الانحناء على أذنها، أو، على المنديل الصوفي الأسود الذي يغطي أذنيها، والهمس لها “أأستطيع مساعدتك؟” مساعدتك لعبور الشارع المزدحم، برزت يدها المعروقة من تحت الأكمام الطويلة لمعطفها، انحنى أكثر لتسمع صوته، أربكه صوتها المخنوق وكلماتها غير المفهومة، وهدأ ارتباكه، بعدما فهمت طلبه، وأرخت يدها عن قبضة الصفيحة.

 والرجل الذي يجس بيده السمينة حبيبات البندورة، في الوقت الذي يسأل البائع عن ثمن الكيلو، وقبل أن يتلقى الإجابة يطلب منه كيلوغرامين، ويفرك خاتماً ذهبياً عريض التاج محفور عليه الحرف الأول مما يظن أنه اسمه.

من حياة يستولدون حياة، إذ لم تمنح الشعوب بعد، امتياز استيلاد الحياة من الموت.

تتصاعد الأرواح من دوارق طبخ لا ينضج، تتصاعد من كوى الانفراديات المعتمة، من النوافذ العالية للزنازين، من ثقوب المعاطف البالية، من الضمادات والجبائر التي تغلف الأذرع كعلب الهدايا، من الأوراق الثبوتية التي لم تعد تثبت شيئاً، من الزفير الحارق، قبل الصعود الجديد للعمارات العالية، تتصاعد كالطائرات الورقية التي أطلقها أجدادهم في القرن الماضي، وعبثت الرياح بمصائرها.

 يظلل الشوارع والأسواق المتفرعة عنها، “حس الخداع الجماعي”. الاكتفاء بطرح الأسئلة والاستفسارات وعدم انتظار الإجابات، اطمئنان بطريقة ما على سير الحياة، بمنهج مراقبي دوام الموظفين الحكوميين، انزلاق إلى درك الخداع الجماعي، ليتجنبوا الحديث عن الأطراف المبتورة، والاكتفاء بالاطمئنان على الأطراف السليمة، وكيل المدائح لقوتها، واستذكار أصحاب العاهات الذين واللواتي تجاوزوا إعاقاتهم …عن الرسامين الذين يمسكون الريشة بأسنانهم وعازفي البيانو الذين يعزفون بذقونهم. في لزومية تجاوز هذه الصعوبات التي فرضت إصاباتها والصعوبات المحتملة.. وعليهم تذكر الإنسان في وقت يجري نسيانه، لا تُذكر حقوقه بل قدراته اللامحدودة على تجاوز الصعوبات، وليس ضرورياً الحديث عن الذين وضعوا الصعوبات ولا المتسببين فيها، ولا عن الذين حولوا الحياة إلى محن يومية.

 الأسواق أكثر الأماكن تعبيراً، عن حقوق الملكية بوصفها حقوقاً مؤقتة للأفراد أو للمواطنين، بالقيمة التداولية التي تملكها السلعة، هشاشة الملكية الخاصة، بقابلية كل السلع والمحلات والبيوت والسيارات للتحول من مالك إلى مالك آخر بعد دفع قيمتها المالية، تحول الأسواق بخبرات وتقنيات تداول السلع، وكل شيء فيها سلعة، كل الأشياء الثمينة والبخسة، البضائع المسروقة والتي يخطط لسرقتها.. شكل من أشكال إذلال عالم الأشياء، وانتهاك حرماته بالتعريص عليه.

لكن “بدنا نعيش”، هذا الحق يدفع الناس إلى هاويات الخساسة.

التظاهر بعدم رؤية الرقع التي تغطي ثقوب الأحذية، ورفع الرأس لرؤية السماء التي لا يرى منها إلا مستطيلات تظهر من بين أعالي العمارات المتلاصقة.. وابتداع تبريرات للباحثين في حاويات الزبالة أنهم يفتشون عن شيء ما أضاعوه، لا عن بقايا طعام يحملونه بحذر ليأكلوه في زاوية معتمة، تجاهل الذين يعرضون للبيع كلاهم الحية لا كلى الخراف الذبيحة المتدلية خلفهم، تغاض عمن يروجون أكياس التبغ بيدهم اليمنى وشراب السعال الذي تسبب به بيدهم اليسرى، إغلاق الآذان أمام نداءات الذين يعرضون للبيع ما لا يباع ولا يشترى التاريخ والجبال والأنهار والعصافير، التربيت على أكتاف المتسربلين في الشوارع بألبسة آبائهم وأخوتهم الأكبر عمراً، تناسي الأموات من الذين لا تعرف قبورهم…من الصعوبة التنبؤ بالمستقبل الذي سيصل إليه الشعب أو لن يصل إليه قط.

 غابت الشمس، غابت شمسهم، لم يبق أمامهم سوى، حمل بضعة أكياس، تخفي ما بداخلها من خبز وخضار، واستدارة خفيفة للعودة إلى بيوتهم.

لم يبق، أي عابر في شوارع التاريخ، لم يقرؤوا سيرته لاستخلاص النتائج والعبر، الإسكندر المقدوني والأباطرة الرومان والملوك الوطنيين والصحابة والخلفاء الراشدين وما تلاهم من خلفاء، وزعماء القرن الماضي، من الذين عملوا على تحلية مرارة الهزائم، والاستعاضة عن فشل خططهم التنموية، بخطط أخرى كفرض تقصير شعر الشبان، وتضييق نهايات بناطيلهم.

حتى وصلوا إلى طريق المناضل الجنوب أفريقي المحفوف بالمثالية والتسويات، التي حولت في خواتمها الوقائع العنيدة إلى واقع أقل عناداً، لكن، الطريق ذاته، الذي خطه مانديلا، حولهم إلى مرتديلا.

نقلا عن المنبر العربي الثقافي ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى