كلما حلَّت ذكرى رحيل أم كلثوم (1898-1975)، في بدايات شباط/ فبراير من كل عام، يستعيد نقّاد الفن تراثها الغنائي بعبارات الانبهار والتمجيد، كأنهم لا يزالون تحت وطأة سحرها. كلما حلَّت ذكرى رحيل أم كلثوم (1898-1975)، في بدايات شباط/ فبراير من كل عام، يستعيد نقّاد الفن تراثها الغنائي بعبارات الانبهار والتمجيد، كأنهم لا يزالون تحت وطأة سحرها. ولم يتمكّن خطابُهم بعدُ، ولا الدراسات التأريخية عن الغناء في العالم العربي، من تحويل هذه “الأيقونة” إلى موضوعٍ للبحث العلمي والتفكير النقدي، عوضًا عن مواصلة اعتبارها “معجزةً، لا تدرك أسرارها”.
ومن بين الإمكانات المعرفية لهذا الحقل الجديد، إجراء مقاربة ألسنية تستنطق سجلّات الكلام في تراثها الغنائي وتدرسها بشكل أسلوبي-إحصائي، يجمع بين المنظور الزمني (الدياكروني) والبنيوي (السانكروني). ويمكن لهذه المقاربة، إنْ طبّقت بشروطها العلمية، أن تربط في نصوصها بين عوالمها الإيحائية، التي تستدعيها كلماتها، وبين سياقها الثقافي-السياسي. وهو ما يفتح الباب واسعًا أمام أنثروبولوجية فنيّة، كان تيودور أدورنو (1903-1969) من أبرز صائغيها، حيث ربط بين الأشكال الفنيّة وآليات إنتاجها، وبين وظائفها السياسية في مجتمعات أوروبا الحديثة. وبالاتّكاء على نظريات هذا المفكّر الألماني، يمكن التساؤل عن الصلات المنعقدة بين نصوص أم كلثوم والأبنية الاجتماعية والسياسية التي حكمت الوطن العربي، بُعيد الحرب العالمية الثانية.
فمن المعلوم أن أم كلثوم قد أدّت جزءًا غير يسير من أغانيها عبر السجل الفصيح، بصيغتَيْه: الكلاسيكية والمعاصرة. فكان بعضها مستمدًا من مدونة الشعر القديم مباشرة، مثل “أراك عصي الدمع”، لأبي فراس الحمداني (932-968)، أو مقتبسة عنه كما مع رابعة العدوية (718-801). وبعضها من الكلاسيكية المحدثة وعلَمها، بلا منازع، أحمد شوقي (1868-1932) في “نهج البردة”، و”سلوا قلبي”، وغيرهما من عتيق الضاد وجزْلها.
واعتمدت أيضًا، ضمن سجل الفصيح، قصائدَ مترجمة من ثقافات أخرى مثل “رباعيات الخيام” للشاعر الفارسي عمر الخيام (1048-1131) و”حديث الروح” لمحمد إقبال، فيلسوف باكستان (1877-1938). وأخيرًا، متحت من مناهل العربية الوسطى مثل ما غنّته لنزار قباني وجورج جرداق والهادي آدم وغيرهم.
وأما من العامية المصرية، فقد أخذت ما طوّعته ليناسب أفق التلقي العام. وهو ما يجعل نصوصها متنوّعة، ترتاد موارد متكاملة، لا تجتمع فقط في مستوى الجمالية اللغوية، بل في ارتباطها بمعنى سياسي، طالما باطن هِزة الإبداع لديها.
ذلك أن اعتمادها الكبير على الفصحى، ولاسيما في مرحلة ما بعد الحرب الثانية، يُلبّي حاجة سياسية قويّة، فقد شهدت تلك الحقبة نهضة الحلم القومي والطموح في بناء أمة عربية، وازدهار الأدبيات الوطنية الساعية إلى تحقيق الحلم الوحدوي، فضلاً عن الأحداث الكبرى في تاريخ مصر المعاصر، فكانت أغاني “كوكب الشرق” تصعيدًا فنيًا وتساميًا Sublimation بهذا التوجه الوحدوي الذي يرادُ تحقيقه، ولكن تعجز عنه الدول العربية في ظل نكباتٍ عسكرية متتالية (إنشاء “إسرائيل”، وحرب 1948، وحرب العدوان الثلاثي في أكتوبر 1956، ونكسة 1967…)، حيث لعب الفن وظيفة التعالي بالواقع وتجميله لتجاوز هذه الهزائم المتتالية التي أصابت مقتلًا من مُخيلة الشعب العربي وهزّت هويّته.
وقد استجاب هذا الأداء الفني المرتكز على عناصر الذاكرة الأدبية مثل مفاهيم: الأطلال، والعَبرات، وتباريح الهوى والأشواق، إلى تصوّر راقٍ عن التعبير الفني، في شبه معادلة تربط بين الرقي الجمالي واستخدام الفصيح، ترسيخًا لمبدأ الهوية الثقافية التي تتجاوز الأزمان، من عصر الجاهلية إلى عتبة الحداثة، كأن الهوية الثقافية كلٌّ لا يتجزأ، لا يعرف التحوّل إليها سبيلًا.
وفي المقابل، يشكّل الغناء بالدارجة انحطاطًا عن دائرة “اللغة العالية”، والعبارة لجون كوهان من كتابه: Le Haut Langage، وهو ما تجنّبته أم كلثوم حين قرّبت أغانيها بالعامية من أسلوب الفصحى، تحاشيًا من قرن فنّها بطبقة “العامة”، وهو ما يفسر اعتمادها الكبير على نصوص أحمد رامي، مع أنه كان شاعر فصحى بالأساس، ولكنّها ألهمته صياغة نصوصٍ بالعامية، درجة حُسنها لا تقلّ صفاءً عمّا في الأدب الفصيح.
وقد أتاح لها هذا المذهب التوجّه إلى أعرض جمهور ممكن، وهو الجمهور العربي “من المحيط إلى الخليج”. ورغم أن اللهجة المصرية كانت من أكثر اللهجات شيوعًا، فإن الفصحى تظلّ الجامع الأقوى والرابط الأحكم في ذلك التوحيد.
”
تعيد ترميم الهوية العربية التي تنازعتها متغيّرات التاريخ
”
هذا وقد رفضت نصوص أم كلثوم حركات التجديد التي بدأت تطاول وقتها البنية الإيقاعية للشعر العربي، بعيْد ظهور الشعر الحرّ ثم القصيدة النثرية، فكان أداؤها بالفصحى بمثابة صمود أمام تحوّلات الشكل الفني، التي باتت تهدّد هيكل القصيدة وعروضها وبحورها، وتطاول، تبعًا لذلك، صفاء الهويّة العربية، وديوان العرب الذي “فيه الحق والصدق والحكمة وفصل الخطاب، وهو مَجنى ثمر العقول والألباب، ومجتمع فرق الآداب”، كما قال الجرجاني.
وبهذا الاختيار، استجاب المتن الكلثومي إلى آفاق انتظار قسم كبير من جُمهور ظل منشدّاً إلى القوالب الكلاسيكية، ولم تُقنعه الأشكال الحديثة، حين عجزت عن تحريك نوازع الشجو والطرب لديه. وفي هذا الصدد، تَحسُن العودة إلى المعنى الدقيق لمفهوم “الطرب”، وإجراء تحليلاتٍ دلالية معمّقة، تغذيها روافد إناسية وبسيكولوجية، لإضاءة خبايا التأثير الفني. وتكفي الإشارة إلى ما كتبه عنه المستعرب الفرنسي أندري ميكائيل (1929-…) في “قصّتا حبٍّ: من المجنون إلى تريستان”، حيث رأى في الطرب عنصرًا يخصّ الثقافة العربية، وتصعب ترجمته إلى اللغات الأوروبية.
وأما الرمزية الدينية، وهي المتوسّلة أساسًا بالفصحى، فقد كانت حاضرةً بشدة، ذلك أنَّ بعض أغانيها تناولت موضوعات دينية صرفة مثل: “وُلد الهدى”، و”إلى عرفات الله”، و”القلب يعشق كل جميل”… على أنَّ هذه الأغاني خضعت لنفس الاقتران بين الفن والأيديولوجيا، ضمن مسار تثبيت المبادئ الأساسية لأمة الإسلام، وقد هزّتها رياح التحوّلات الحديثة.
إن فرادة نصوص أم كلثوم أبعد من الفن، وهي فيه، وخارِجَه بنفس القوّة. تأتّت بعض عناصرها من إسهامها في ترسيخ هوية الأمة العربية، وتجذير شخصيتها في عالم مهتزّ، عبر تقوية البعد القومي لدى المنتمين إليها وتجذيره وجدانًا ثقافيًا مشتركًا ضدَّ هيمنة الآخر، أي الغرب المستعمر. وتمتد الظاهرة الكلثومية بقامتها الطويلة كتمثال يجسد هوية الضاد، فصيحةً في أصفى أبعادها رسمية وجزالةً فهي لا تغني فحسب، بل تشيّد الوجدان وتعيد ترميم الهوية العربية التي تنازعتها متغيّرات التاريخ وصدمات الهزائم والتحوّلات من المَلَكية إلى الجيش.
ولئن أُخِذ على فن أم كلثوم أنه يلهي الشعبَ العربي عن قضايا وطنه، وأنه نُخبويّ الطابع، لا يتوجه إلا إلى أرستقراطية مصر، فإن هذا المأخذ لا يدرك حجم التوازن الصعب الذي حقّقته نصوص السيّدة، بين خطاب الفن وتحوّلات التاريخ الكبرى، فقد كانت عاكسةً لكثافة لحظة وعي فارقة، تنشدّ من جهة إلى مأساة الواقع العربي، وتسعى من جهة أخرى إلى الهروب منه نحو آفاق الفن الرحيبة.
نقلا عن العربي الجديد