كتابات خاصة

سؤال القضاء والقدر (1)

عبدالله القيسي

هل الإنسان مخير أم مسير؟ أين يبدأ التخيير وأين ينتهي؟ وأين يبدأ التسيير وأين ينتهي؟ كنت قد قرأت لأحمد أمين في موسوعته الرائعة في تاريخ العقل الإسلامي (فجر وضحى وظهر الإسلام) هل الإنسان مخير أم مسير؟ أين يبدأ التخيير وأين ينتهي؟ وأين يبدأ التسيير وأين ينتهي؟ كنت قد قرأت لأحمد أمين في موسوعته الرائعة في تاريخ العقل الإسلامي (فجر وضحى وظهر الإسلام) أن هذا السؤال هو أعقد سؤال في الفكر الإسلامي، ومنه افترقت الفرق في القرن الأول والذي يليه.. لكني وجدت أن ذلك السؤال هو أعقد سؤال في الفكر الديني كله.. بل وصلت مؤخرا أنه أعقد سؤال في الفكر الإنساني كله، عند الديني واللاديني.. فإذا ما استبدلنا مكان الإله المادة فإن السؤال يبقى عند اللاديني سيكون مسيرا وأين يكون مخيرا؟ ومتى تكون المادة أي مادة هي المسيرة ومتى يكون اختياره؟ متى يخضع للحتمية التاريخية مسيرا ومتى يكون مختارا؟

وبما أن هذا السؤال معقد بهذا الدرجة فالأولى هو الوقوف الجاد للإجابة عليه لا الاكتفاء بالسخرية من الأديان أو من إجابتها.. إنه سؤال يستفز العقل البشري كله وليس المتدين فقط، وربما سهلت الأديان الإجابة بوجود الإله..
لقد استغرق هذا السؤال كثيرا من الوقت عندي ولا زلت أتهيب الإجابة عليه، ولا أظن أني قد وصلت إلى النهاية، ولا أعتقد أن مقالا واحدا سيكفي للإجابة التي تخمرت برأسي منذ زمن، ولكن حتى لا تظل حبيسة الدماغ أحببت أن يشاركني القارئ ما وصلت إليه أو ما اقتنعت به حول هذه المسألة.. هذه القناعات هي عبارة عن خليط لقناعات آخرين، تراكمت فيها إجابات كثيرة قدمها مجموعة من المفكرين الذين ناقشوا هذه المسألة، فلم يكن همي من القائل بقدر همي أن أجد إجابة متماسكة إلى حد ما.
للإجابة على هذا السؤال سأذهب لتحرير المصطلحات التي تدور حول هذا الموضوع، وكالعادة وبحسب المنهج الذي اتخذته أذهب للنص القرآني باعتباره النص المؤسس للدين أولا، وباعتباره أول نص لغوي عربي ثانيا، فما دلالة ألفاظ القضاء والقدر والعلم والمشيئة والإرادة؟
إن البحث في دلالة هذه الكلمات سيكون هو المفتاح للولوج إلى إجابة هذا السؤال الكبير..
فما هو القدر والقضاء في القرآن؟
بتتبع آيات القدر وجدت أن آيات القدر تشير إلى القانون الذي خلقه الله في الكون، أو السنن المبثوثة في هذا الكون، هذه السنن والقوانين التي نكتشف كل يوم جزء منها عبر علم من العلوم، فعلم الفيزياء مثلا يبحث في قوانين الكون أي أقدار الكون، وعلم النفس مثلا يبحث في قوانين النفس البشرية، وعلم الاجتماع في قوانين وأقدار الاجتماع البشري، وعلم الطب في قوانين الحياة والشفاء وهكذا..
يقول تعالى: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ القمر:49، أي بقانون محدد، فكل ما في القانون مخلوق بقدر وقانون، ونحن نسعى في اكتشاف هذه الأقدار، كي نتحكم في الحياة بشكل أكبر، فاكتشاف الطبيب لعلاج مرض ما هو اكتشاف لأحد الأقدار المبثوثة في هذا الكون، واكتشاف نيوتن لقانون الجاذبية هو اكتشاف لأحد الأقدار، وهكذا كل علم يكتشف قانونا في مجاله..
إن بحثنا في تلك الأقدار عند طريق العلوم الطبيعية والإنسانية والفنون والآداب لن يصل يوما لأن نكتشف كل أقدار الكون، لأن اكتشافنا لكل أقدار الكون يعني أننا سنتحكم بكل ما فيه، وهذا يعني إننا صرنا إلهة..
وهكذا سنجد في بقية الآيات التي تتحدث عن القدر أنها جاءت بمعنى القانون:
– ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ الحجر:21
– ﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ﴾ المؤمنون: 18
– ﴿ وَلَٰكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾ الشورى: 27
– ﴿ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا ﴾ الزخرف: 14
– ﴿ فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يَا مُوسَىٰ ﴾ طه: 40
وفي ضوء هذا المعنى للقدر نفهم قوله تعالى: ﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ﴾ التوبة: 51، بأننا لا نخرج عن سياق القدر أي القوانين والسنن المبثوثة في الكون، فلن يصيبنا شيء خارج ما كتبه الله لنا في هذا الوجود، ففهي الوجود أقدار هي ما كتبها الله، ولن يخرج ما يصيبنا عن قدر من تلك الأقدار.
أما القضاء في القرآن فهو الذي نختاره من تلك الأقدار التي تؤدي إلى أقدار تالية لها، فالاختيار الأحسن يقود لنتيجة حسنة، والاختيار السيء يقود لنتيجة سيئة، ولكل قضاء مجموعة من القوانين تحكمه، لذا تختلف نتائج اختيار إنسان عن غيره، بحسب قوانين النفس والاجتماع والبيئة والظروف التي يعيشها وغيرها من القوانين التي لم ندركها بعد..
فقوله تعالى: قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ ﴿٢٨ القصص﴾ أي أيّ الأجلين اخترت من الثماني الحجج أو العشر الحجَج.. وهكذا سنجد في آيات أخرى مشابهة تتحدث عن القضاء، أي الاختيار أو الحكم الذي نختاره.
إذن نصل إلى خلاصة في هذا الموضوع بأن القضاء هو ما نختاره بحريتنا من قدر، أما القدر فهو السنن التي تتحكم بحياتنا ونحن مخلوقون ضمنها لا نستطيع الخروج منها، فالقوانين أشبه بالمعادلات التي تقودنا إلى النتائج التي قد ترضينا أو تسخطنا.. وكل ما علينا هو أن نزيد من العلم والمعرفة لأقدار الكون  كي يكون اختيارنا أفضل وأحسن..
وهذا سيقودنا لإجابة سؤال مهم متعلق بهذا الموضوع هو: وأين علم الله إذن؟ وهل يتعارض مع الحرية؟ ستكون الإجابة في مقال قادم إن شاء الله.
المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى