فكر وثقافة

هل من مشروع فكري عربي محتمل؟

فيصل درّاج

عرفت الحياة السياسية – الثقافية العربية، في النصف الأول من القرن العشرين، اقتراحات فكرية دعت، بأشكال مختلفة، إلى التجديد الاجتماعي، ليس في هذا العنوان شيء من التحريض، وهو فعل خائب غالباً، يحتفي بالانفعال ولا يعترف، إلا قليلاً، بالمحاكمة العقلانية. والباعث عليه سديم عربي تتقاطع فيه الأزمة والمحنة والهزيمة. فلم يبلغ العرب سابقاً، ما بلغوه اليوم من العجز “والتستّر” عليه.

عرفت الحياة السياسية – الثقافية العربية، في النصف الأول من القرن العشرين، اقتراحات فكرية دعت، بأشكال مختلفة، إلى التجديد الاجتماعي، وبشّرت “بيقظة الأمة العربية” بلغة نجيب عزوّري. وصل العرب، اليوم، إلى ما يدعى “بالأزمة العضوية” بلغة رحيمة، ترفض العجز والاستسلام، ولا تنفتح على بدائل اجتماعية تحاصرها. دار الأمر، في زمن سبق، بين التحدي والاستجابة، وبين وعي بالتداعي والبحث عن وسائل تقترح البناء والنهضة.
استُهل القرن العشرين، أو اختتم القرن التاسع عشر، بكتاب شهير أقرب إلى البيان، عنوانه “طبائع الاستبداد”، جاء به السوري الحلبي عبد الرحمن الكواكبي (1849 – 1902)، الذي أدرك مبكراً أن في الاستبداد حتف الأمم، ورحل مسموماً، قبل أن يلتقي، لاحقاً، بأنظمة عربية لها طبائع أكثر استبداداً.
وإذا كان السوري المسموم بدأ بالسلطوي، تعبيراً عن بصيرة ثاقبة، فإن مفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده (1849 – 1905)، عالج، في كتابه “الإسلام بين العلم والمدنية”، استبداداً دينياً، لا علاقة له بروح الدين، يصوغه الجهل والاستثمار السلطوي للدين وتعاليمه. اعترف الشيخ بالتطور ودعا إلى التجديد وأنكر الجمود والتكفير، وقرأ أحوال المسلمين وهو يقرأ غرباً منتصراً احتل أراضيهم.
تحرير العقل
هجس الكواكبي بمجتمع حر، وأثنى على وجوه من الحضارة الغربية، وتأمل عبده بحسبان رهيف تحرير العقل، وقرأ النص الديني على ضوء الحاجات الإنسانية المستجدة، متوجهاً إلى المتعلمين ومحاذراً إغضاب العامة. واجه الأول السلطة العثمانية، بعد أن لاذ بمصر، ولم يواجه الثاني أحداً، مدركاً أن من طبع السلطات زجر التجديد الديني والفكري. وهو ما تكشف، لاحقاً، في موقف سلطة حاكمة في مصر أجبرت طه حسين على تعديل كتابه “في الأدب الجاهلي”، وألقت على علي عبد الرازق بالحُرْم، بعد أن نشر كتابه “الإسلام وأصول الحكم”، الذي لم يرَ موقعاً للخلافة في الدين الإسلامي، ولا لتوارث السلطة. أدرك هؤلاء المفكرون معنى التحدّي والاستجابة، واستجابوا إلى ما يبعث في المجتمعات العربية حياة جديدة.
وعلى الرغم من حضور سلطة مصرية تدعو إلى الثبات، فإن كفاح الشعب المصري، بعد ثورة 1919، كما معاهدة 1936، التي وعدت بخروج الاستعمار الإنجليزي من مصر، أتاح لطه حسين تقديم كتابه “مستقبل الثقافة في مصر”، المكوّن من جزأين، الذي شرح معنى المجتمع الحديث، موحداً بين التعليم والديمقراطية، إذْ التعليم بلا ديمقراطية محو للأمية لا أكثر وإذ الديمقراطية بلا تعليم لغو فارغ، يستثمره الساسة الانتهازيون في أغراض مختلفة. وما حاوله حسين في مصر كان يصلح لمجتمعات عربية كثيرة؟
قصّر بعض نقّاد طه حسين المسافة بين النقد والتنديد، وعزا إخفاق مشروعه إلى خلل فكري وطّده ضعف حاضنته الاجتماعية، علماً أن ما هزم مشروعه، وهو الأكثر تكاملاً في الفكر العربي الحديث رغم نواقصه، يعود إلى أسباب خارجة عنه، تحتقب السلطات والتصورات الراكدة وأنصار التحديث “المتعجلين” معاً. كان طبيعياً أن يدخل كتابه إلى مكتبة الصمت، ولا يطبع إلا مرة واحدة، ولم يفرج عنه، إلا في زمن متأخر، لم يعد بحاجة إليه، بعد أن توازعت السلطات و”الجماعات” محاربة الحداثة والتحديث.
مجيء الفكر القومي العربي
هاجم الاشتراكيون، وكان لهم مشروعهم الفكري، كتاب طه حسين لارتباطه “بأيديولوجيا” قريبة من الإقطاع!! وهاجمه القوميون بسبب “نزعة قطرية”، بلغة زمن مضى، وميل إلى محاكاة الحضارة الفرنسية، معتبرين أن الحضارات تتعدد بتعدد اللغات. كان المرفوض في فكر طه حسين تغييب كلمة “الثورة” وإغفال شعار: الوحدة العربية، وحسّه النقدي الشكوك الذي يرفض المسلّمات.
جاء الفكر القومي العربي، الذي صعد في أربعينات القرن الماضي، ليلبي حاجات ضرورية، اجتهد فيها مفكران لامعان: ساطع الحصري وقسطنطين زريق وغيرهما، بعيداً عن تلفيق قومي، يختصر الشعب في نخبة مفترضة، تعهد إلى العسكريين بانجاز ما اقترحه المثقفون، وتحوّل المجتمع والمثقفين إلى أكف مصفّقة. ولم تكن القومية العربية، في البداهات  الحزبية، إلا استتباعاً لقومية عربية قديمة، قوامها اللغة، ولم تكن الوحدة العربية، كما صاغها زريق الشاب، إلا محصلة طبيعية لرحيل الاستعمار، الذي سيتلوه مجتمع عربي موحّد، يقوم بتحرير فلسطين، ويمحو التخلّف بتقدّم شامل تشرف عليه “دولة قومية” واضحة الغايات. من الجدير بالذكر في هذا المجال، أن حسين دافع عن فلسطين، بدءاً من ثلاثينات القرن الماضي وما تلاها ، بلغة مسؤولة سبقت سقوط فلسطين، كما أظهر المصري حلمي النمنم في كتابه: “طه حسين والصهيونية”، الذي ظهر قبل سنوات قليلة – 2010.
النكبة النكباء
حسمت حرب 1967 دعاوى ورغبات وأمنيات كثيرة وأنتجت هزيمة العرب الكبرى في الأزمنة الحديثة، المستمرة إلى اليوم. كان سقوط فلسطين قد دفع بقسطنطين زريق إلى تجديد فكري قوامه “النكبة النكباء”، وحرّض المتعلّمين من الشباب العرب، كما قال عبد الرحمن منيف، إلى توليد أحزاب جديدة. ما جاء بعد الهزيمة الكبرى الثانية في عام 1967 كان أقل صوتاً، فالأحزاب القائمة استنفذت أغراضها، أي اقتنصت “السلطة واستراحت وعبثت بالمجتمعات كما تريد، منقطعة عن قانون التحدي والاستجابة. ساعد على ذلك مناخ سلطوي اعتبر عمل المجتمع في السياسة مؤامرة خارجية، وحاول تقييد الثقافة والمثقفين، دون أن يحقق تماماً ما يصبو إليه. فقدّم السوري الراحل جلال صادق العظم كتابه “النقد الذاتي بعد الهزيمة” مطالباً العرب بالتعرّف على نواقصهم بعيداً عن مشجب “الصهيونية والاستعمار”، وجاء اللبناني مهدي عامل بلغة جديدة، في كتابه “نمط الإنتاج الكولونيالي”، ورأى في النظم العربية “المستقلة” تبعية متجددة، واستتباعاً للاستعمار القديم “بتكلفة أقل”، وأعطى الفلسطيني هشام شرابي مساهمته في “النظام الأبوي”، الذي يؤسس العائلة على قمع موروث، إضافة، طبعاً، إلى الفيلسوف المغربي اللامع عبد الله العروي، الذي حاول تجديد الفكر العربي في زمن لا يسمح بالتجديد.
رفع الفكر العربي الحديث صوته ضد الاستبداد والجمود الديني، في فترة محددة، وواجه حلم بعض الأنظمة بخلافة مستحيلة، في فترة أخرى، وساءل أسباب سقوط فلسطين واستجمع قواه وجدّد أسئلته بعد هزيمة حزيران. وما أن دخل الجيش الإسرائيلي إلى بيروت عام 1982، كما العدوان الأمريكي على العراق، حتى بدا الفكر العربي قد استنفذ قواه، فلم يقل الكثير عن الحدثين المأساويين الكبيرين، ولم يوقظه اتفاق أوسلو، ولم يكن لديه ما يقول عن الثورات الشعبية الكبيرة الأخيرة والمخفقة. والسؤال الآن: ما الذي جعل هذا الفكر يفقد مواقعه وينزاح متباعداً عن ثنائية التحدي والاستجابة؟ وعد الفكر النهضوي، في بداية القرن العشرين، بمستقبل عربي جديد، ووعد ما تلاه بأكثر من استقلال وطني، واحتقبت فترة صعود الفكر القومي والاشتراكي تفاؤلاً، رأى في المشروع الصهيوني مرضاً طارئاً سهل العلاج.
استئناس الهوان
وبعد قرن من الزمن اكتسح الضباب المستقبل، وغدا التفاؤل كلمة ساخرة. والواضح ديمومة الأنظمة وهزيمة شعوبها، والواضح أكثر سياسات سلطوية تسدّ مسام المجتمعات المدنية العربية المحتملة. فقد اعتبرت الأنظمة الأحادية الصوت الثقافة، كما الشعب، ملكية خاصة. صادرت الحوار المجتمعي الذي هو شرط التجدد الثقافي، وعيّنت نفسها ضامناً للثقافة وشروطها، فهي الناطقة باسم المستقبل والحوار والمعرفة، وألغت السياسة التي من دونها لا وجود للثقافة، بالمعنى الاجتماعي الشامل، واعتبرت تاريخ وصولها إلى السلطة تاريخاً مقدساً يلغي ما قبله، أكان تاريخاً سياسياً أو ثقافياً… وأكثر من هذا كله، أنها طبعت المجتمعات بطبعها مستلهمة، بدراية أو من دونها، قول الكواكبي: “إذا طال عهد المستبد بهم بالاستبداد تشبّهوا به” وأخذوا من الذي يستبد بهم صفات كثيرة.؟ أملى “طول العهد” المستبدّ على الناس الابتعاد عن الحوار، ثقافياً كان أم غيره، وكاد أن يحوّل الكثير منهم إلى “أوراق بيضاء” مشغولة بالقوت اليومي واستظهار العادات الكاسدة، وإذا ثاروا على الاستبداد عاملوه بمنطقه، مؤمنين بضرورة التحرّر، وغير مدركين للسُبل التي تفضي إليه.
أفضى هذا كله إلى انحسار المشاريع الثقافية – السياسية، حتى غدت شيئاً من الماضي، أو ما هو منه قريب. ساعد على ذلك خبث إعلامي وغموض مسيطر، وذلك الفرق الهائل بين خبرات التسلط المتراكمة وخبرات الكارهين “لطبائع الاستبداد”، المرتبكة الأركان المحاصرة بنيران متقاطعة.
ومع أن كثيراً من السلطات العربية رفعت، منذ عقود، شعار” استئناس الهوان”، الذي يفرض على الإنسان أن يتعايش مع إذلاله، فإن في مكر التاريخ ما يستولد اللامتوقع “المربك”، الذي يأتي إذا جاء الأوان، وما يحتفظ بجهود ثقافة لا يستأنسها الاستسلام.
نقلا عن المنبر العربي الثقافي “ضفة ثالثة”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى