كتابات خاصة

لماذا الدولة المدنية؟

عبدالله القيسي

ستكون الدولة المدنيّة: هي الدولة التي يتم فيها: استقلال السلطة السياسية، وتعتمد حق حرية المعتقد وممارسة العبادة  هل هي دولة الخلافة كما يسميها الإسلاميون أم دولة علمانية كما يسميها العلمانيون؟ صراع قديم يتجدد.. فإلى أولئك الذين آمنوا بالحرية من الطرفين وآمنوا بالعيش المشترك على هذه البقعة من الأرض، وآمنوا بالمواطنة المتساوية بين كل فئات الشعب.. تعالوا إلى كلمة سواء..

لماذا لا يكون مصطلح “الدولة المدنيّة” هو المصطلح التوافقي بين الفريقين! إنه المصطلح الذي ساعدت عليه الثورات العربيّة للخروج من مأزق التنازع بين أطروحتي دولة الخلافة والدولة العلمانية.. الدولة بالمعنى الحديث لا تقوم إلاّ بعد علمنة الفضاء السياسي، لكنّ كلمة علمانية ارتبطت في أذهان كثيرين بالسياسات اللاّدينية أو المعادية للدين التي انتهجها بعض أنظمة الحكم الشيوعية، حتى أنّ بعض دساتير المنظومة الشيوعية سابقاً كان يقرّ بالشيوعية عقيدة رسمية أو ينصّ صراحة على دور الدولة في مقاومة العقائد الدينية، ما جعل العلمانية “مُسترابة” وإن لم يكن هذا معناها الأصلي.
في المقابل أعطت بعض الجماعات الدينية الإسلامية صورة مفزعة لما تسميه دولة الخلافة، فداعش تلك الجماعة التي تدعي أنها تطبق الخلافة قد جعلت أي مسمى لدولة إسلامية هو بنفس ريبة الإسلامي من العلمانية وربما أكبر.. وحتى حركات الإسلام السياسي فإن أدبياتها السياسية لم تكن كافية في تخفيف التخوف الموجود عند خصومهم.. ولا زالت تعاني قصورا كبيرا على مستوى الحريات.
إن مفهوم مدنيّة الدولة يقضي بأن يكون الرابط الاجتماعي بين الناس مدنيّاً وليس عقائديّاً، وأن تكون وظيفة الدولة تنظيم الحياة المشتركة وإدارة التعايش والاختلاف بما يمنع الصدام والفوضى، بينما تحترم الدولة الحريّات الفرديّة في الفضاء الخاص. فغاية كلّ التشريعات التي تصدر عنها وتطبّق باسمها تنظيمُ الفضاء العام، وإذا تجاوزت ذلك أصبحت دولة عقائديّة تتدخّل في ضمائر الناس ووجدانهم.
لقد وجدت أن هناك مجموعة من الأسباب دفعتني وربما تدفع القارئ معي لنجعل من ذلك المصطلح “المدنية” شعارا لمطالبنا في هذا الفترة القادمة، فما هي تلك الأسباب التي جعلتني أفضل مصطلح “المدنية” على “العلمانية”؟
أولا: ما يحمله مصطلح العلمانية من حمولات سلبية في ذهن الشارع العربي الإسلامي، وخاصة وأن تلك الحمولات تجد لها ما يؤيدها في أدبيات الفكر الغربي، فالعلمانية في الفكر الغربي لها عدة أبعاد وتعاريف يرصدها كل باحث من زاويته. وهذا ما جعلني أكرر باستمرار أن ما أعنيه من علمانية هو بعدها السياسي فقط، وحتى لا يختلط على القارئ مع الأبعاد الأخرى والتي قد تتسع لتستبعد كل مظاهر الدين في الحياة العامة، كما هي العلمانية الصلبة والتي من أبرز دعاتها (ريجيس دوبري)، وهي بعكس العلمانية التعددية المنفتحة التي تتكيف مع التعددية الثقافية وتسمح بظهور الدين في الحياة العامة، وأبرز دعاتها (جان بوبيرو).
ثانيا: الاختلاف الوارد في المعجم العربي حول ترجمة المصطلح الإنجليزي “سيكولار secularism”، والمصطلح الفرنسي “لائيك laïcité”، وذهاب كثير من الباحثين إلى أن ترجمة ذلك بـ”العلمانية” لم يكن دقيقا، وقد ذهبوا في ترجمة كل واحد منهما مذاهب مختلفة فبعضهم ترجمها بــ دنيوية وبعضهم زمانية وبعضهم دهرية، وغياب هذه الدقة في الترجمة سمحت بثغرات تضعف حجة مطالبيها.
ثالثا: إن المتأمل لمشكلاتنا السياسية سيجد أن استقلال مؤسسات الدولة عن السلطة الدينية ليس مشكلتنا الوحيدة، ففي سياقنا السياسي تبرز مشكلات أخرى في استقلال مؤسسات الدولة ربما تكون أكثر ملاصقة لواقعنا السياسي، إذ سنحتاج أيضا إلى استقلال مؤسسات الدولة عن “سلطة العسكر” الذين استحوذوا بالانقلابات على السلطة لعقود مضت، فكان استقلال مؤسسات الدولة عنهم مبدأ مهماً لإقامة دولة ديمقراطية حديثة، كما أننا سنحتاج أيضا إلى استقلال مؤسسات الدولة عن “سلطة القبلية” التي تتوسع في بعض الدول العربية لتأخذ مساحة في السلطة السياسية وبلادنا أكبر مثل على ذلك، ولما كنا بحاجة إلى استقلالين آخرين مهمين رجحت مصطلح “المدنية” على مصطلح “العلمانية” الذي كان يتحدث عن استقلال واحد فقط، ولكن هل مصطلح “الدولة المدنية” يمكن أن يحمل تلك المعاني؟
إذا توقفنا عند مفهوم “الدولة المدنية” سنجد أنه مفهوم مركب من مفهومين: هما “الدولة” و”المدنية”, والدولة كمصطلح سياسي تعرف بأنها “مجموعة من الأفراد (الشعب)، يعيشون على إقليم محدد (الأرض)، ويخضعون لسلطة سياسية حاكمة (الحكومة)، وتتمتع بالاعتراف الدولي كشرط للتمتع بالصفة الدولية”. أما مفهوم “المدنية” فهو من الناحية اللغوية ينسب إلى “المدينة” وتدل على نمط الحياة في المدينة، معبرة عن العناصر الظاهرة الفعالة المحركة من بين عناصر الحضارة المدينة، ولمزيد من فهم دلالة هذه الكلمة دعونا نقف على ما يقابلها من كلمات، إذ تستعمل في الساحة الثقافية اليوم في مقابل كلمتين هما:
1. مقابل البداوة: وهنا ستعرّف الدولة المدنية بأنها الدولة المتحضرة التي تنتشر فيها مظاهر الحياة العمرانية والثقافية في مقابل الدول المتخلفة حضارياً والتي لا زالت تعيش نمط القبيلة.
2. مقابل العسكرية: وهنا ستعرّف الدولة المدنية بأنها الدولة التي يتولى الحكم فيها حاكم مدني، بنظم دستورية لتولي الحكم، وليس عن طريق الانقلابات العسكرية والاستيلاء على الحكم بالقوة.
إذن فإن استقلال السلطة السياسية ومؤسسات الدول سيشمل عدم تدخل السلطة الدينية أو سلطة العسكر أو سلطة القبيلة.
وستكون الدولة المدنيّة: هي الدولة التي يتم فيها: استقلال السلطة السياسية، وتعتمد حق حرية المعتقد وممارسة العبادة لكل فرد، وحق المواطنة المتساوية لكل أبناء الوطن، وكافة الحقوق السياسية والمدنية للأفراد، وتقوم على التداول السلمي للسلطة، والعمل المؤسسي في كل أجهزتها.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور”.
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى