أنت لا تعرف على أيِّ أساس تتعلَّق هذه المارّة كشهقةٍ طويلةٍ بذراع ذلك الذي يبدو لك قميئاً، إن كنت عابرا في روما
بما أنك لن ترمي جذراً في الأرض ولن تميل كصفصافةٍ على ساقيةٍ فما جدوى النظرات التي ترسلُها شرسةً مرةً، ساهمةً مرةً أخرى، متضرعةً في نهاية المطاف، فلن تصطاد سوى ما بدرَ سهواً من يدٍ تحرَّكت على الطاولة أو وجهٍ تلفَّتَ، بلا قصدٍ، إلى الوراء، فليس بالنظرة وحدها مهما كانت طويلةً، مركزةً، أو حتى ميدوزيِّةً تغيرُ أيها العابرُ في روما سُننِ أهل روما. هذا ليس ديكوراً من الورق المقوَّى سيتداعى تحت نظرتك الكاسحة، إلمسه بيدك لتصدِّق أنَّ الأسباب تستجمع نفسها أحياناً، في ضحكة بلهاء أو قميصٍ مشجَّرٍ. أنت لا تعرف على أيِّ أساس تتعلَّق هذه المارّة كشهقةٍ طويلةٍ بذراع ذلك الذي يبدو لك قميئاً، ولا كيف يميلُ ذو الجِرم العظيم على تلك التي بنسمةٍ تطير، فليس بالنظرة وحدها، مهما كانت مدربةً، ثاقبةً، مركزةً، تستطيع تحريك ملعقة السكَّر في كوب قهوتها، إذ وحدك، على الأغلب، من يظن أنَّ تسبيلةَ رمشٍ أو انحناءة فارس يمكنهما مقايضة حياةٍ من لحمٍ ودم، فلا تقل إن ارتدَّت نظراتك كسيفةً إنه المال أو الشهرة أو حتى الحظ، فالعابرُ لا يتركُ وشماً على ذراع أو ندبةً على ترقوة ولكن تذكَّر، إن نفعت الذكرى، أنَّ الأسباب استجّمعت لك نفسها في روما أخرى بكلمةٍ واحدةٍ لا تعرف كيف هبطت عليك ولا كيف نطقْتها، لأن النظرات التي صُوِّبَتْ إلى التي ارتمت على ذراعك بكامل حِمْلِها من الخزامى طاشت سهامُها.
.. لا تفعل ما يفعل أهل روما
وإذ لا تنتظرك عائلةٌ على العشاء ولا حملةٌ لتأديب البرابرة وراء الحدود فماذا يفيدك أن تفعل في روما ما يفعل أهل روما. إجلس في مهبِّ السهام التي تتطاير حولك وانظر كيف ستخرجُ بلا خدشٍ تقريباً وخفيفاً حتى لو أودع الماضي أثقاله في قدميك، ففي هذا الوقت المتأخر لن تغير أيها العابر في روما ما آل إليه أهل روما، فلا تستغرب، إذاً، الهرج المائج في المقاهي ولا الأغاني التي تمجدُ الحبَّ لا الحرب فهذا زمنٌ آخرُ لا تخطو فيه الأشجارُ أبعد من ظلالها ولا تموتُ كسابق عهدها في القصائد، وابتسم، إن استطعت، في وجه اولئك الذين يظنون أنَّ الحياةَ خادمة العائلة المطيعة فعندما رأيت رجال البلاط يمشون بخطوٍ وئيدٍ أمام الجنازة المهيبة كان هناك من يشربُ كأساً مع سيدة في بيروت ومن ينيخُ جَمَلاً محمَّلاً بالملح في تومبكتو.
في الطريق إليك
تأتي تلك التي بأرفعِ إبر الصبر حِكْتَ انتظار طلَّتها يوماً بعد يوم، كلُّ ما ترجوه من سيّد العاصفة، هذا الذي كان إلهاً عنيداً ذات يومٍ وطاردَ ملوكاً بالأنواء والمطر أن لا تأتي متأخرةً. صحيحٌ أنك ولدت في عائلةٍ معمّرةٍ، صحتُك تبدو، حتى الآن، جيدةً، أعضاؤك التي تعوّل عليها حين تستدعى إلى العمل تغسلُها، كلَّ صباحٍ، بماء النذور، لكن الحياة يا ابن أمي طُنبرٌ نَزِقٌ لا يتردَّدُ في رمي أيّ حملٍ زائدٍ على الطريق، ألم ترَ كيف انتهى اولئك الذين تشبثوا بأيّ شيء كي يكونوا آخر الواصلين؟
متأخرة بعض الشىء، أقصر مما اعتقدت، بشعرٍ أقلّ تموجاً وتجعيدتين اثنتين أو ثلاثٍ حول الشفتين، لا بأسَ، لا بأسَ، فهذه أمورٌ عليك توقعها في طريقها الطويل إليك.
بالصدفة أيضاً
حتى لو قلت إنَّها الصدفةُ بطلة حياتك وهي التي أوصلتك بكامل أعضائك تقريباً الى مدينةٍ سبقك إليها كثيرون، فقد اصطدتها باسمك المستعار الذي لم يثر خلوّه من فصيلة الدم انتباه أحدٍ، أو بالحِيَلِ التي تعلمتها باكراً في دساكر القيظ والغبار مذ أدركت أمكَ أنَّ كتفاً مائلةً لن تلوح لنجمة السعد وهي توزعُ الألقابَ والحظوظ، لذلك شببّتَ مائلاً لا لعوجٍ طبيعيٍّ في عمودك الفقريّ وإنما لأنك سمعت ضريراً يقولُ ذاتَ يومٍ لصبيٍّ أرعنَ أَّن معتدلي القامة لا يرون أبعد من أنوفهم، فالأغصان والنيازك والدموع تسقط دائماً الى الأسفل، ومما التقطت على طرق الاغاثة والبريد صنعت درعاً واقيةً كلما أخذتك سِنَةٌ من النوم صدَّت عنك سهاماً وجدت نفسك في مرماها بالصدفة.
نقلا عن المنبر العربي الثقافي “ضفة ثالثة”