فكر وثقافة

نجيب محفوظ ولغة الرواية

اللغة التي يعتبرونها نقطة ضعفه هي نقطة قوته

يمن مونيتور / العربي الجديد

قادتني الصدفة أخيراً، إلى قراءة رواية “اللص والكلاب” لنجيب محفوظ للمرة الثالثة. شعرت بمتعة شبيهة إلى حد ما بتلك التي شعرتُ بها عندما قرأتها في المرتين السابقتين قبل عدة أعوام.
ولم يتغيّر الرأي الذي تكوّن لديّ عنها آنذاك وهو أنها واحدة من أجمل روايات نجيب محفوظ رغم قصرها (143 صفحة من القطع الصغير تتخللها عشرة رسوم يحتل كل واحد منها صفحة كاملة) وأنها لا تقل أهمية عن أعماله الأخرى التي تنعت بـ”الكبرى” مثل الثلاثية و”الحرافيش” و”أولاد حارتنا”. بيد أن الأهم من كل هذا أنني ازددت اقتناعاً بما كنت أؤمن به وهو أن لغة محفوظ ليست “نقطة ضعفه” كما هو رائج.
لقد دأب النقّاد على اعتبار محفوظ روائياً تقليدياً. وهذا صحيح إلى حد كبير. إلا أنني لا أجد لغته “تقريرية” و”باردة” و”جافة” كما يردّد بعضهم. وهم يقصدون بذلك أنها غير”شعرية” أي أنها خالية من العبارات والصور والمجازات التي تعجّ بها القصيدة الغنائية العربية دون أن يدركوا أمراً، أعتبره أساسياً، وهو أن حضور الشعر في الرواية يختلف تماماً عن حضور الشعر في القصيدة خاصة الغنائية منها. الشعر في الرواية لا يتأتى من اللغة وإن كانت اللغة مهمة جداً في الرواية أيضاً وإنما أساساً من التطوّر الدرامي للأحداث والإيقاع الداخلي للرواية والمناخات التي يستطيع الروائي إشاعتها في عمله.
اللغة التي يعتبرونها نقطة ضعفه هي نقطة قوته
وإذا قاربنا مسألة اللغة مقاربة مختلفة ندرك أن هذه اللغة التي يعتبرها بعضهم نقطة “ضعف” محفوظ هي في الحقيقة نقطة “قوته”. فهِمَ محفوظ مبكراً أن الرواية – هذا الجنس الجديد على ثقافتنا – هي فن التسمية بامتياز تماماً مثلما أن القصيدة هي فن التلميح بامتياز. ولكي تسمي الأشياء التي تحيط بك والتي بدونها لا يمكنك أن تكتب رواية لا بد أن تكون دقيقاً صارماً منضبطاً في لغتك، وخصوصاً ألا تستسلم لموسيقى الكلمات الخارجية التي توفر للأذن العربية هذا “الطرب” السهل البسيط الذي تعوّدت عليه.
عندما بدأ محفوظ يكتب الرواية، كانت اللغة السائدة هي لغة المنفلوطي ومصطفى صادق الرافعي. وهي لغة عاجزة عن أن تقول الفضاء المديني الحديث الذي لم تكن المجتمعات العربية تعرفه في العصور التي سبقت عصره. لكن كان لا بد أن يسمّي ما يحتويه هذا الفضاء من أشياء وأدوات وأجهزة (عالم المقهى الحديث. عالم العمارة. السيارة. الأوتوبيس..).
لقد بذل محفوظ جهداً كبيراً لإخراج اللغة العربية من فضائها الهلامي الرومانسي الديني. كان أول من زجّ بها في الحياة الضاجّة النابضة الصاخبة بتعقيداتها وتحوّلاتها ونزع عنها قدسيتها وشحنها بهواء جديد ومرّغها في تراب الواقع ووحله لتنقل إلينا بدقة روائح العالم وألوانه ومذاقاته.
كان محفوظ واعياً تماماً بمدى أهمية اللغة في الرواية فهو يقول مخاطباً يوسف الشاروني في كتابه “رحلة عمر مع نجيب محفوظ”: “المشكلة كانت كيف تطوّع اللغة العربية المجرّدة المقدّسة لتعبّر عن الحياة اليومية.. حين تدخل حارة أو تجلس على قهوة فإن مشكلة اللغة تعترضك.. أي إنها مشكلة الكاتب عندما يستعمل لغته في مجالات جديدة لأول مرة. لهذا أعتقد أننا تعبنا في مسألة اللغة”.
لقد تطوّرت اللغة العربية كثيراً في ما بعد. وبذل روائيون آخرون مجهوداً هائلاً لنحت كلمات جديدة لتسمية أشياء لم تكن موجودة في عصر صاحب “الشحاذ”. لكن يمكننا أن نقول دون مبالغة، إن كل الأجيال الروائية التي تلت جيل محفوظ مدينة له بشكل أو بآخر. ليس لأنه أسّس هذا الجنس الأدبي الجميل وكرّس له حياته وخاض فيه تجارب كثيرة وفتح فيه أبواباً عدة ومنحه شرعيته، وإنما لأنه رسم لنا الطريق لتأسيس لغة طيّعة دقيقة شديدة الالتصاق بالواقع في تحوّلاته الدائمة. لغة قادرة على أن تقول حقيقتنا هنا والآن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى