كتابات خاصة

الأدعية المأثورة بين المقصدية والحرفية

عبدالله القيسي

يمكن أن نلخص مشكلة التدين في مختلف المدارس الإسلامية تحت هذا العنوان الكبير: صراع الجوهر والقشور، المقاصدية والحرفية، الروح والعرض، فمدرسة مقاصدية تضم مختلف الدرجات من الأغراق في المقاصدية حد الاستغناء الكامل عن الشكل إلى أدنى مدرسة مقاصدية هي أقرب للحرفية.

يمكن أن نلخص مشكلة التدين في مختلف المدارس الإسلامية تحت هذا العنوان الكبير: صراع الجوهر والقشور، المقاصدية والحرفية، الروح والعرض، فمدرسة مقاصدية تضم مختلف الدرجات من الأغراق في المقاصدية حد الاستغناء الكامل عن الشكل إلى أدنى مدرسة مقاصدية هي أقرب للحرفية.
وفي الجانب الآخر مدرسة حرفية تضم مختلف الدرجات من الإغراق في الحرفية حد الابتعاد عن المقصد إلى أدنى مدرسة حرفية هي أقرب للمقاصدية، وربما اشتهر الأول عن المدارس الصوفية بدرجاتها، والثاني عن المدارس السلفية بمختلف درجاتها أيضا.
إن المناطق الوسط والمتقاربة من خلط المقصد والشكل في العبادات هي أقرب المدراس في نظري إلى الحقيقة، ولكن ما مقادير تلك الخلطة؟
إن الحكيم هو من يتقن تلك الخلطة فيعرف متى يحافظ على المقصد ومتى يحافظ على الشكل، متى يكون المقصد هو الأساس ومتى يكون المقصد بشكل محدد هو الأساس، فيحافظ على كليهما مرة، ويهمل الشكل إن لم يكن مطلوبا مرة أخرى.
ومن هذه القضايا التي تدخل في هذا الإطار قضية “الأدعية المأثورة” تلك التي انصرفت فيها التيارات الإسلامية إلى الحفاظ على الشكل أكثر من المقصد والجوهر، فكانت النتيجة أن فقدت روحها وصار المسلم مقولبا طوال يومه.
إذن دعونا نتخيل كيف كانت تصدر تلك الأدعية من النبي عليه السلام في حياته اليومية، وأنا هنا أتخيل ذلك كون هذه القضية ليست من الفرائض التي علمها لصحابته كي يقلدوه فيها بتفصيلاتها كالصلاة والحج مثلا..
كان النبي عليه السلام يعيش حالته الإيمانية طوال يومه متفاعلا مع ما تقع عليه حواسه فيندهش منه ويتعجب منه أو يتأمل، ومع ذلك الانفعال تصدر منه كلمات الشكر والثناء والحمد لخالق هذه الكون تارة، وتارة يصدر منه الاستغفار وطلب العون من الله،  فإن رأى السماء قال: سبحانك ما خلقت هذا باطلا.. وإن نظر لنفسه في مرآة قال: اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي.. وإن ركب دابته يقول: سبحان الذي سخر لنا..
وهكذا كان يتفاعل مع اللحظة ذاتها، وربما يدعو في كل مرة بدعاء مختلف، ولهذا شواهد كثيرة، أهمها أن تلك الروايات التي ذكرت تلك المأثورات هي روايات آحادية لا متواترة، أي رواها واحد من الصحابة لا جمع منهم، وإذا كانت آحادية لا متواترة فهذا يعني شيئين:
أولا: لا نستطيع الجزم بأنها نفس الكلمات التي قالها النبي لأن تلك الروايات نقلت بالمعنى وهذا يعني عدم التشدد الحرفي بنطق نفس الكلمات.
ثانيا: لو كان النبي يتكلم بها كل يوم وبشكل متكرر كلما رأى ذاك الشيء أو دخله لوردت لنا بطريق متواتر عن كثرة من صحابته وهذا ما لم يحدث، وهذا يعني إن كلماته تلك صدرت منه مرة واحدة حين انفعل في اللحظة ذاتها، فنقلها الصحابي كما شاهدها، وربما لو انفعل النبي مرة أخرى لقال كلاما آخر..
هذا الكلام سيجرنا إلى أن نبحث في مقصد وروح تلك الأدعية المأثورة، وهو الاندهاش والانفعال مع الكون والحياة المصاحب بحالة من ذكر الله شكرا ودعاء واستغفارا، وإذا أردننا تحقيق ذلك المقصد فإننا سنتبعد قليلا عن التطبيق الحرفي لتلك الأدعية المأثورة، فلا نقيد القلب بكلمات بعينها بل نجعله يعبر بما خطر بلسانه من كلمات تسبح أو تمجد أو تحمد أو تستغفر الله في الحدث الذي يكون مدهشا للقلب في تلك اللحظة، فلا يظل يتذكر ما حفظه من الأدعية فيفقد لحظة الاندهاش بتشتت الذهن إلى استدعاء الذاكرة، وبهذا يحقق انسجامه مع هذا الكون، ذلك الانسجام الذي يأتي من علاقة انسجام علاقة عالم الغيب بعالم الشهادة.
أما ذلك الذي يأخذ بحرفية تلك الأدعية المأثورة فقد حول نفسه لرجل آلي من وقت استيقاظه إلى منامه، ولأن أفعاله هي نفسها كل يوم فإن له كلاما محددا ومكررا يقوله كل يوم،.. فجمد نفسه في قالب لا يستطيع الانزياح منه والتمدد خارجه.. بل ولو كان هناك فعل مهم لم يرد فيه دعاء مأثورا فإنه لن يندهش معه ويتفاعل معه بما يستحق من التفاعل، ويطلق لقلبه ولسانه التعبير بما يناسب شعوره شكرا أو حمدا أو تسبيحا أو استغفارا أو دعاء، ذلك أنه توقف عند الحرف ونسي المقصد..
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن سياسة “يمن مونيتور”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى