من التراشق الكبير بين أنصار المخلوع وأنصار الحوثي، يبدو أن أحداث صنعاء أشد فظاعة مما حدث في 2011، لكن الانقلاب الكبير في ذروة اللعبة يبدو مريبًا، حتى ونحن نسمع عن تساقط عشرات القتلى من الطرفين، إذ يُشَبِّه اليمني وقد أوصد باب شقته أن ما يحدث “لعب جهال”.
لا علاقة بأحبة رُبا صنعاء بالتناحر الذي يحصل اليوم بين شريكي الانقلاب.
من زمن سام بن نوح وصنعاء تستقبل الناس ولا تمنحهم الحق بالتدخل في المدينة. كل ما يفعله الساكن وسط النيران المضطرمة أن يجلس في غرفته، يمارس حياته مسدلًا ستائر النوافذ محاولًا الإنصات للأقدام الثقيلة التي تجوب الشوارع وتطلق النيران.
منحتني “حرب الحصبة في 2011” شعور الغربة المخيفة، وفي أسوأ الأحوال عندما يشتد القصف بالأسلحة الثقيلة، كنا نلجأ إلى المطبخ باعتباره الزاوية الأبعد في مكتب الصحيفة عن الحرب.
كنت أتخيل صاحب المطعم الذي اشتق لمشروعه اسمًا من دعوة شعبية: مطعم الله يرزقه للعصيد. أتخيله يتلوى مثل الإعلان المنفوخ بالهواء متلافيًا الرصاص، وقد ترك المحواش وسط القِدر الكبير، وهو يجترح التضرع: الله يحميه، متخليًا عن “الله يرزقه”.
فيما بعد؛ أوصدت المطاعم أبوابها ومواد البناء، توقفت ألعاب حديقة الثورة، تحول المقوات الذي كان مزحومًا بضجيج الحياة إلى قفر مهجور، لقد انتشرت الحواجز الاسمنتية وتم تقطيع الشوارع بأكوام التراب.
من التراشق الكبير بين أنصار المخلوع وأنصار الحوثي، يبدو أن أحداث صنعاء أشد فظاعة مما حدث في 2011، لكن الانقلاب الكبير في ذروة اللعبة يبدو مريبًا، حتى ونحن نسمع عن تساقط عشرات القتلى من الطرفين، إذ يُشَبِّه اليمني وقد أوصد باب شقته أن ما يحدث “لعب جهال”.
الأطفال يلعبون، يكونون في وضعية السمن على العسل، متزاملون لدرجة الإيثار بكُرات الحنظل، وفجأة وبسبب غطاء لعلبة كوكاكولا مملوء بالحصى، يتضاربون فيعفر كل طفل جسد صاحبه بالتراب، ويهربون إلى أمهاتهم. تارة يختلفون بلا سبب، يتبادلون العض ويغرسون ذكريات الأسنان على الأجساد الغضة، يعودون إلى الصحبة من جديد، وهكذا.
في “لعب الجهال” تصل الأحداث إلى نقطة اللاعودة، حين ينتقل العداء من الأطفال إلى الأمهات.
من أُم الحوثي، ومن أُم صالح؟
ليس هذا استخفافًا بما يحدث، فالتغطية التي حظيت وتحظى بها وقائع صنعاء، تؤكد أن العالم يترقب انقلاب الموازين السياسية والعسكرية على الأرض. نائب الرئيس يؤيد، والتحالف العربي يصدر بيان ثقة، والإعلام الخليجي الذي كان يصف علي صالح بالمخلوع الذي تم “ترميمه” عقب حادثة النهدين، يصفه الآن الرئيس السابق الإيجابي.
نحن بالطبع ضد الاشتباكات العشوائية وترويع الآمنين كي لا يظن الناس أننا فرحين بالحرب داخل العاصمة. لدينا ذكريات هناك، صاحب مطعم “الله يرزقه للعصيد” لا ندري عنه شيئاً، وما إذا كان قد استأنف تمتين العصيد من بعد حرب الحصبة أم لا.
المخلوع يصرح على الهواء مباشرة وزعيم جماعة الحوثي يصرح، المؤتمريون الذين كانوا قفازات مطاطية تصفق للحوثي، قلبوا الصحن فجأة وصاروا يتحدثون عن ضرورة تأديب الجماعة المتمادية التي لطمت حلفاءها وأهانتهم.
العالم يترقب، وأحرزنا تقدمًا كبيرًا حتى وصلنا إلى افتتاحيات نشرات الأخبار العالمية.
هذا كله لا يبدو مهمًا، أمام بائع أحزمة فوق عربية وسط شارع هائل، تركها هناك قبل المولد النبوي وعاد إلى القرية في إجازة، يبدو مغتمًا اليوم ويتضرع من كل قلبه: يا رب لا تقرحش حرب بصنعاء، يا رب إن قرحت حرب فلا توصلها شارع هائل، شقرح الضمار.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.