جدلية النقاش الدائر اليوم يمنيا، وبشكل مكثف ولافت، ولأول مرة بهذا المستوى من التفاعلية والاصطفافات، تصدر من قلب الإشكال القائم اليوم، جدلية النقاش الدائر اليوم يمنيا، وبشكل مكثف ولافت، ولأول مرة بهذا المستوى من التفاعلية والاصطفافات، تصدر من قلب الإشكال القائم اليوم، أي الحرب الطاحنة التي ترتكز إلى البواعث العنصرية السلالية بوصفها أهم أدواتها ودينامياتها. فلا يمكن اليوم الحديث عن موجة القومية، بمعزل عن التطرّق لأهم الأسباب والمسببات لهذه الحرب الدافعة نحو النزوع القومي لليمنيين في وجه جماعةٍ تستند إلى تراث عنصري كهنوتي، مستند إلى فكرة “الحق الإلهي” في الحكم، باعتباره أهم مرتكز أيديولوجي طائفي لهذه الحرب في أبسط تجلياتها. ولا يمكن اليوم سبر أغوار النقاش بشأن الهوية والقومية اليمنيتين، بعيدا عن فهم هذه الأسباب التي كانت بمثابة محرّكات ودوافع لهذا النقاش بشأن “القومية اليمنية”، باعتبارها هوية ثقافية حضارية تاريخية للأمة اليمنية التي تعرّضت لفتراتٍ من الضياع والتراجع الحضاري الذي كان أهم عناوينه تجذّر الهوية الأقلوية للطائفية السياسية الزيدية في مناطق شمال اليمن، واشتغالها طويلا في تفتيت معالم الهوية اليمنية لهذه المجتمعات التي حوّلتها النزعة السلالية المذهبية من مجتمعاتٍ زراعيةٍ تجاريةٍ إلى قطيع من المحاربين الباحثين عن الغنيمة.
ليست هذه الجدلية القومية وليدة هذه اللحظة قطعا، فهي حالة تاريخية موغلة، بدأت أولى فصولها ردة فعل للميثولوجيا السياسية للمذهبية الزيدية التي وفدت إلى اليمن مع مؤسسها الأول يحيي بن الحسين الرسي (245- 298 هـ)، الذي قدم إلى اليمن سنة 284 هجرية، ونشأت وتطورت الزيدية في الحالة اليمنية بصيغتها الهادوية، وظلت فترة في صورة استبدادية حاكمة، تظهر أحيانا وتتلاشى أخرى.
البدايات الأولى
لم تكن المسألة القومية اليمنية حالة معزولة عن سياقها الحضاري التاريخي، مع استثناء أن بواكيرها كانت استجابة وجودية لحالة التجريف الهوياتي الذي تعرّضت له اليمن، أرضا وإنسانا، فأنبرى أبو محمد الحسن الهمداني (280-336 هـ)، باكرا ممتشقا ذاكرة تاريخية طويلة من الحضارة والتاريخ والمدنية والممالك التي أسسها اليمنيون عبر تاريخهم، باعتبارهم أمة حاضرة في قلب التاريخ وصانعة له.
لكن ما الجديد اليوم في سياق هذا النقاش؟ ولماذا ترتفع الأصوات هنا أو هناك بشأن هذه
“لم تكن المسألة القومية اليمنية حالة معزولة عن سياقها الحضاري التاريخي” الجدلية القومية؟ وما هي القومية؟ وما حدودها ومقوماتها؟ وهل الهوية هي القومية؟ وما علاقة القومية بالوطنية؟ وما علاقة الدين بالقومية أيضاً؟ وكيف ينظر الإسلاميون واليساريون والقوميون أنفسهم إلى القومية؟
يعتقد كاتب هذه السطور أن النقاش القومي في الحالة اليمنية سبق النقاش القومي في الحالة العربية بقرون، نظراً لما أشير إليه عن الصراع الفكري الكبير الذي دار بين الزيدية السياسية واليمانية، من الهمداني ونشوان الحميري والمطرفية وغيرهم. لكن اللافت أيضاً أن الهوية اليمنية التي يعد كتاب الإكليل للهمداني أهم أدبياتها التأسيسية، والتي وجهت بقسوة وعنف وتشويه كبير وطمس الحقائق التي وصلت إلى درجة منع نسخ الإكليل ومصادرتها وحرقها.
بعد أبي الحسن الهمداني في القرن الثالث الهجري، جاء نشوان بن سعيد الحميري في القرن الهجري السادس، وبدأ باستئناف حركة القومية اليمنية العربية، رافعا راية أبي الحسن الهمداني، ولكن هذه المرة كان المخزون الديني الإسلامي هو عدة نشوان الحميري الذي جادل الهادوية دينيا، وبأدواتها نفسها، فأبان عوارها وسطحيتها على عكس الهمداني الذي كان شعاره في معركته القومية “أهم خير أم قوم تبع”، معليا من النسب التبعي وحضارتهم أمام جماعة بلا تاريخ.
مثلت أيضاً الحركة المطرفية، نسبة لمطرف بن شهاب الشهابي، محطة مهمة من محطات الصراع الفكري بين الهوية اليمنية ومنكريها من الهادوية الزيدية، ودخلت هذه المرحلة مرحلة الصدام المسلح، حيث بادر إمام الهادوية، عبدالله بن حمزة، بقتال الحركة المطرفية العلمية، وإبادة أهلها وحرق هجرهم ومساجدهم ومزارعهم، وإن كانت الحركة المطرفية علمية الطابع والمنزع والجهود، ولم تكن حركة مسلحة. لكن، تبقى كل المداخل للحديث عن القومية اليمنية بمعزل عنها، أصلا وجذرا وأساسا للقومية العربية، مجرّد مغالطة تاريخية، لا يمكن القبول بها، أو تجاوزها، باعتبار اليمن أصل العروبة والعرب، وأي بحثٍ عن قومية خاصة بها من دون العرب، وهم تاريخي، وخرافة لا تقل عن الخرافات العنصرية الأخرى.
القومية المعاصرة
القومية العربية، بحسب الأدبيات الناصرية، “ليست رابطة دم ولا عرق، بل هي جماعة متخيلة بأدوات اللغة ووسائل الاتصال الحديثة، تسعى إلى أن تصبح أمة ذات سيادة”. ويستند هذا التعريف، بدرجة رئيسية، إلى تعريف أبو القومية العربية الحديثة ساطع الحصري (1879- 1968)، اليمني المولد، والذي كان المرتكز الرئيسي للقومية العربية عنده اللغة والتاريخ المشترك، فقد ركّز على أن اللغة والتاريخ المشترك سيعملان في العرب معجزتهما، ولم يشترط الحصري (أبو خلدون) الأصل المشترك، بالنظر إلى أن اللغة، بحسب الفيلسوف الألماني فيخته، أساس القومية ومنشأها، وهي المدخل الذي تعتمد عليه الدراسات الحديثة لفهم نشوء القوميات الأوروبية المعاصرة.
حيث تذكر هذه الدراسات أن إحياء اللغة العرقية ولهجاتها وتحويلها للغة كان عاملا مساعدا
“النقاش القومي في الحالة اليمنية سبق النقاش القومي في الحالة العربية بقرون” على نشوء القوميات الأوروبية الحديثة، والتي تزامنت مع اختراع الطابعة وذهاب بعضهم إلى الاحتجاج على اللغة اليونانية المحتكرة في كتابة الكتاب المقدس، باختراع لغته الخاصة وإحيائها، كتابة ونطقا، مما تفتق معه نشوء القوميات الأوروبية الراهنة، والتي تزامنت أيضاً مع الحركات الإحيائية اللوثرية والكلفينة.
ومن هذا المنطق، كان تركيز ساطع الحصري على أهمية اللغة العربية ودورها في صناعة قومية العرب، والحفاظ على قوامهم أمةً جدير بها أن تُنشئ دولتها، وتستعيد حضورها بين الأمم الكبيرة. وذكر الحصري أن أهم أسباب انهيار الإمبراطورية العثمانية هو عدم وجود لغة واحدة تجمعها مع الأمم والشعوب التي كانت خاضعه لها، وأن العربية، في بداية النشأة، قامت بهذه المهمة، إلى أن جاءت الحركة الطورانية التي حاولت تتريك العرب، فأيقظت فيهم روح العروبة.
بالعودة إلى الحركات القومية السابقة التي نشأت أيضاً، كالناصرية والبعثية والحركة الأم للقوميين العرب، التي اشتغل على فكرتها مفكرون عرب، مثل قسطنطين زريق وجورج حبش ونديم البيطار وميشيل عفلق، كان تمثل لهم اللغة العربية أيضا معلما رئيسيا من معالم القومية العربية، ولم يكن الدين بالنسبة لهم يمثل، على الرغم من أهميته، سوى أهمية ثانوية، وهو الموقف الذي لا يقبل به الإسلاميون، وينظرون إليه مدخلا يستهدف الإسلام وإقصاءه من حياة الناس واهتماماتهم، وهو موقفٌ ربما يكون مبالغا فيه من الإسلاميين، أو له ما يبرّره لديهم.
في السياق الأيديولوجي
يبقى الموقف اليساري العربي الأكثر مفارقةً في نظرته إلى المفهوم القومي، والذي يرى في القومية واحدا من أشكال الرجعية، لأنه لا يستقيم مع الرؤية الماركسية للصراع التاريخي، وهو صراع الطبقات وليس صراع قوميات، وهي الرؤية التي كانت ترى أن البروليتاريا لا وطن لهم يتعصبون له، ويعملون من أجله، ويشدهم الانتماء إليه، وهي الرؤية التي أثرت كثيرا في ضبابية الرؤية اليسارية اليمنية للمسألة القومية العربية عموما، والهوية اليمنية خصوصا.
على العكس من ذلك، تكرست في الرؤية القومية للناصريين في اليمن، وفي أدبياتهم التنظيمية، أن مصر عبد الناصر هي قلب “العروبة”، ومنبع القومية، وكل الأقطار العربية تابعة لها، في تناقض واضح مع الحقيقة التاريخية التي تقول إن اليمن هي أصل العرب ومنبعهم.
وتتجاوز هذه النظرة الخصوصيات المحلية والوطنية، وكذلك الهوية المحلية والقانونية للكيان السياسي القائم، وهو ما وقعت به النظرية الناصرية. كما أن هذه النظرة انعكاس لعدم الوضوح النظري الذي وقعت به الناصرية في قضايا كثيرة، وتعارض هذه النظرة تطبيقاتها، عدا عن رؤيتها الاشتراكية للاقتصاد الذي يتعارض مع مفهومها القومي للسياسة أيضا.
أما الإسلاميون ورؤيتهم القومية، فقد مثلت القومية بالنسبة لهم واحدة من الإشكالات التي وقفوا أمامها بنوع من الارتباك حينا والهجوم حينا آخر، وحاولوا تفنيد كل الطروحات القومية، وعدوها مرحلة تم تجاوزها إسلاميا، بما يسمونها الأخوّة الإسلامية التي تتجاوز كل الإشكالات اللغوية والعرقية والإثنية، عدا عن المخيال السياسي الكبير التي تقوم عليه فكرة الخلافة الإسلامية المتجاوزة فكرة القومية العربية من أساسها.
ففي الحالة اليمنية، ساهم الإسلاميون في ضرب مفهوم الهوية اليمنية، بتعويمها في سياق الإسلامية الأممية، وهي الحالة التي استفاد منها كثيرا أصحاب نظرية الحق الإلهي الذين اشتغلوا كثيرا على ضرب مفهوم الهوية والخصوصية اليمنية الحضارية، ووجدوا في كل التيارات الأيديولوجية اليمنية مساحة للاشتغال، والعمل على ضرب كل توجه نحو الهوية والخصوصيتين اليمنيتين.
القومية والجدل الراهن
الإشكالية الكبيرة في خضم الجدل الراهن يمنيا اليوم هي في الخوف من تحول النقاش الهوياتي
“مثلت الحركة المطرفية محطة مهمة من محطات الصراع الفكري بين الهوية اليمنية ومنكريها من الهادوية الزيدية” القومي إلى مجرد جدل مضاد للسلالية الإمامية الانقلابية، ورد فعل مضاد لها فحسب، وتوقفها كعنصرية مضادة، عدا عن تجاوز النقاش من حقل الدلالة الهوياتية إلى محاولة القفز لتخليق مصطلح “القومية اليمنية”، وهي حالةٌ لا تستقيم مع حقائق المنطق العلمي الذي يرى القومية ليست مجرد هوية ورابطة جغرافية فحسب، وإنما لغة وتاريخ وشعب، وهو ما لا إشكال فيه يمنيا.
عدا عن ذلك، وهو ما سيستدعي الحديث عن إحياء اللغة اليمنية القديمة وإعادة كتابتها بخطها المسند، وهو ما يبدو متعثرا حاليا، للمدة الزمنية الكبيرة الفاصلة بين العهدين، فضلا عن التطورات والتراكمات التاريخية والاجتماعية والثقافية من حولنا، والتي تقول إن اليمن هي بلاد العرب الأولى، ومهد أرومة أجدادهم جميعا، وهو ما ستناقضه فكرة البحث عن خصوصية للقومية اليمنية المغايرة للقومية العربية التي تستمد سرديّتها التاريخية من قصة اليمن الحضاري أصلا للعرب جميعا.
الحديث اليوم عن قومية يمنية مغايرة لكل محيطها العربي هو محاولة انسلاخ عن عروبة اليمن وتاريخه، ودينه بالذهاب نحو البحث عن قومية أخرى متوّهمة، وهو ما لا يخدم أحدا غير العصابات الطائفية التي تسعى إلى تصوير هذا التوجه حركة ارتداد يمنية عن عروبتها وعقيدتها، محاولة إيجاد شرخٍ في بنية المجتمع اليمني الثقافي والاجتماعي لتعزّز فكرة تخندقها في صورة الأقلية المضطهدة التي تروجها العصابة الانقلابية أمام العالم.
عدا عن هذا، لا يوجد في اليمن أي تنوع لغوي ولا ديني ولا عرقي، ما يعني أن كل اليمنيين أمة وشعب واحد، وإن الإشكالية في ما يتعلق بخرافة نظرية الحق الإلهي الزيدية يمكن معالجتها دستوريا بتجريم هذه الفكرة، مثل النازية الألمانية والفاشية الإيطالية التي تم تجريمهما دستوريا.
ختاما، صحيح أن فكرة المواطنة الدستورية نظرية جيدة، وحلت إشكاليات كثيرة في المجتمعات المتنوعة إثنياً، لكنها لم تستطع تجاوز هذا الإشكال الهوياتي، وهو ما نراه اليوم في المشكلات الاسكتلندية والكتالونية والكيبيكية، لأن المسألة هنا تتعلق بالصراع الهوياتي النابع من الاختلاف الثقافي واللغوي، وهذا ما ليس موجودا في الحالة اليمنية التي تعاني قطعا من فشل فكرة الدولة، فكرةً وممارسةً حتى اللحظة، ما يتطلب جهودا كبيرة لتبيئة هذه الفكرة، من مدخل تجريم الفكرة الانقلابية وإسقاطها أولا للتأسيس للدولة ومنظومتها التشريعية والدستورية، وهذا ما تقف الفكرة الطائفية عقبة كبيرة في طريقه حتى الآن.
نقلا عن العربي الجديد