آراء ومواقف

سمراء من اليمن

عمر الشارحي

عندما يقرّر المرء الكتابة عن امرأة سمراء، لا يسعه إلا أن يستدعي كل قواه اللغوية، ويفتش بين تجاعيد عقله عن كلّ لفظ يمكن له إيراده في النص، لتعزيز قوته في التأثير، فما بالكم عندما يكون الحديث عن فتاة سمراء من اليمن؟

عندما يقرّر المرء الكتابة عن امرأة سمراء، لا يسعه إلا أن يستدعي كل قواه اللغوية، ويفتش بين تجاعيد عقله عن كلّ لفظ يمكن له إيراده في النص، لتعزيز قوته في التأثير، فما بالكم عندما يكون الحديث عن فتاة سمراء من اليمن؟

المحبط دائماً أنّ الجانب المشرق من اليمن الغارقة في التاريخ والحضارة، عادةً يكون مغيّباً، وهكذا لا يبقى أمام العالم إلا أن يتحدث في الجانب السلبي، عن الحرب والكوليرا والإرهاب والموت والمجاعة والفقر.
كان الوقت ضحىً، وكانت الشمس تقترب من كومة سحب داكنة في السماء، ثم بدأت تغيب تدريجياً، حتى وصلت إلى عمق تلك السحابة، ولم تبقَ إلا في خيطين من ضوء يدوران في الأفق، وكان الحي شبه مفرغ من المارّة، فقد اعتادت المدينة في مثل هذا الوقت أن تنام على غير عادة الزمن الذي كانت فيه أحياء صنعاء تشبه خلية نحلٍ تدب فيها الحياة كل حين.
في المنعطف الذي يتيح الطريق إلى الحي العتيق في قلب صنعاء، حيث بسطة خضار ما زالت مغطاة، ومن حولها تتجمع أكياس حشرتها الريح التي ضربت الحي فجراً، ودراجة هوائية مركونة عرض حائط مجاور، وعليها سلسلة مؤمّنة بقفل أصفر، انفتح باب على مصراعيه فجأة، فتجلّت من ورائه فتاة تسترشد الطريق كاشفة الوجه، وكانت تطل بمحياها المبهر، كأنها أرادت أن تغيّب الشمس عنوة، وتعلن دخول المساء عبر قمرٍ يتربع فوق قامتها المتزنة.
تبادر إلى السمع صوت خافت يخرج من خلف الباب، ينادي “أبرار”. التفتت الفتاة التي بدا عليها أنها في ربيعها الثامن عشر، ولحركة رأسها تهدلت خصلاتٌ من شعر كان بادئاً أنه ذهبي صُبغ بالحناء ربما.
انتهى حديث خلف الباب لم يدم أكثر من دقيقة، وكنت أتسمّر في مكاني، مثل صبيٍّ عثر على فكةٍ في الشارع، فداسها يتحين الفرصة لدسها في جيبه، أخذت الفتاة تشد الخطى، وكانت تأخذ السبيل باتجاهي… حينها كان بإمكاني رصد التفاصيل في ملاك يأخذ طريقه نحوي.
خجلت الفتاة التي كانت تلاحظ شاباً أشعث الشعر، شاحب الوجه، لا يرفّ له جفن، وهو محملقٌ عليها يدير رأسه ببطء، كلما استلزم الأمر ذلك. ابتسمت الفتاة من حرج، واستدعت يمناها تلف لثاما غطّى جزء من وجهها الى منتصف أنفها، وحثّت الخطى.
مرارة تستلذ بحلاوة هذا الوقت الذي كان قصيرا لا يرقى لأن نقول عنه كافيا لاستبانة هذا الأفق الذي استدار عبر المنعطف في الحي القديم وذهب دون أن ندري الى أين.
ذهبت السمراء، وعاد الباب مقفلا، وتحرّك المتسمر من مكانه، وتبدّدت الغيمة التي ابتلعت الشمس، وعاد الضوء يفتح آفاق المدينة مجدداً، ثم سُمع صوت طائرة تحلّق عن قرب.
نقلا عن العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى