يصرُّ الغرب على تبني صورة وحيدة للإسلام قوامها الجماعات المتطرفة التي اجتاحت العالم ووجدت لها أكثر من داعم يعزز بقاءها لأسباب سياسية ونفسية في المقام الأول. يصرُّ الغرب على تبني صورة وحيدة للإسلام قوامها الجماعات المتطرفة التي اجتاحت العالم ووجدت لها أكثر من داعم يعزز بقاءها لأسباب سياسية ونفسية في المقام الأول. هذه الصورة أغرت بعض الترجمات الحديثة بطمس كل ما يخالف نمطيتها الراسخة في العقلية الغربية كالوشم. فظهر من يتجرأ على النص بالحذف أحيانا وبالتعديل، في بعض أجزائه، إذا تعذر الحذف. بغض النظر عن أمانة المترجم ودوره الأساسي الذي يستمد براعته من التجرد والشفافية التامة، مهما تعارضت الأفكار المطروحة مع قناعاته الشخصية، أو أثارت بداخله تاريخًا من الرفض والبغض. وليس أكثر من الشعر الصوفي بفاعل في تحريك الصورة عن موضعها المتواطأ عليه. فتلك الطاقة المنبعثة من بين كلماته تشبه الشمس، يصعب إنكارها وأشعتها تخترق القلب مباشرة. كما ليس من شاعر يفعل في قلوب قارئيه مثل جلال الدين الرومي أجدر بلعبة القص واللصق.
الرومي بلا هوية
كان من المدهش أن يعود الرومي بعد ما يربو عن 800 عام ليصبح أكثر الشعراء مبيعا، والأكثر إدهاشا أن يتزامن بزوغ نجمه في أميركا مع قرارات ترامب وحكومته بشأن ترحيل المسلمين وحظر دخول رعايا الدول السبع من بلده وغيرها من القرارات التي وصفها معارضي ترامب بالتعصب والعنصرية. تحيلنا ردة الفعل تلك من القارئ إلى فكرة الدفاع عن النفس، أو الفرار إلى الكلمة كمعادل لعالم تتصاعد فيه وتيرة العنصرية والتعصب ونفي الآخر المختلف بشكل غير مسبوق.
فكثيرا ما يشار إلى الرومي بالزاهد، أو القديس، أو الصوفي، أو المستنير. ونادرا ما يشار إلى كونه مسلمًا، على الرغم من أنه أمضى حياته بأكملها عالمًا متبحرًا في علوم الدين والإسلام. وليس هذا عن جهل بالمعلومة، فأشعار الرومي تحتشد بالعبارات والإشارات الإسلامية وكذلك بالاقتباسات من القرآن، وفق ما ذكرته فاطمة كشفاريز أستاذة الدراسات الفارسية بجامعة ميريلاند، في تحقيق نشرته النيويوركر الرزينة تحت عنوان “محو الهوية الإسلامية من شعر الرومي” فقد استدلت من تواتر الاقتباسات على حقيقة لا تقبل الجدل هي حفظه للقرآن. فضلا عن أن الرومي يصف كتابه المثنوي بأنه “جذور جذور جذور الدين”، وهو ما قصد به الإسلام، وشرح القرآن. ولكن على الرغم من ذلك فقد ظهرت الترجمات التي حققت مبيعات هائلة في الولايات المتحدة الأميركية مفرغة تماما من أي أثر لهويته الدينية.
ترجم كتابه “المثنوي” وحده إلى 22 لغة، كما ظهرت مؤخرا ترجمات عديدة لأشعار الرومي منها ترجمة كولمان باركس في عام 1995 وكتاب الحب 2003. وهناك ترجمة شارام شيفا لكتابه “إزاحة الحجاب: تراجم الرومي 1995″، وترجمة ر. أ. نيكلسون وإيه جى آربيرى ومارى شيمل، وكان باركس أستاذ الأدب الإنكليزي وصاحب ديوان the Juice هو من حول ترجمات الرومي إلى أقوال مأثورة وأشعار منثورة بالإنكليزية. معتمدا في صياغته على الترجمة الفيكتورية، ما أسهم في تصاعد نجم الرومي بين قراء الإنكليزية.
أثر الرومي كشخصية ملهمة
تحكي رزينة علي في مستهل تحقيقها طرفًا من تأثير الرومي على كريس مارتن، عضو فريق “كولدبلاي” حين انفصل عن زوجته الممثلة غوينيث بالترو، واعتراه نوع من الاكتئاب جراء ذلك. حينها أهداه صديق مجموعة من الكتب لرفع معنوياته، من ضمنها أشعار الرومي، وإليها يعزو مارتن الفضل في تغيير حياته لا حالته فحسب، كما صرح فى مقابلة له لاحقًا.
وتناول عديد من الروائيين شخصية الرومي في كتبهم كشخصية مركزية تحرض على الكتابة، منهم الكاتبة الفرنسية نهال تجدد التي صدر لها كتاب “الرومي: نار العشق” وإليف شافاق في روايتها “قواعد العشق الأربعون” والفرنسية مورل مفروي في رواية “بنت مولانا”. كما عالجها ديفيد فرانزوني كاتب السيناريو العالمي في فيلم عن حياة الرومي، وعلاقته برفيقه شمس الدين التبريزي.
وفي عام 2007 وزعت “يونيسكو” ميداليات باسم الرومي بمناسبة مرور 800 عام على ميلاده، وجاء في إعلانها “أفكار وآمال الرومي يمكن أن تكون جزءًا من أفكار وآمال يونيسكو.” وغنت بعض قصائده فنانات أميركيات مثل مادونا، وغولدي هون، وديمي مور على أنغام الناي
ومن أشهرها “أنين الناي” التي يقول فيها:
أنصت إلى الناي يحكي حياته
ومن ألم الفراق يبث شكايته.
وتضمن آخر ألبومات “كولدبلاي” مقطعًا بصوت باركس من إحدى قصائد الرومي يقول فيه:
هذا الإنسان بيت ضيافة
في كل صباح وافد جديد
بهجة، حزن، ضعة
بعض انتباهٍ خاطف
يأتيه كزائر غير متوقع.
وورد في التحقيق أيضًا مدى التأثير الروحي للرومي في حياة بعض المشاهير مثل مادونا وتيلدا سوينتون، بعضهم قام بدمج كلماته في نتاجهم الفني. وتتداول أقوال الرومي المأثورة على وسائل التواصل الاجتماعي على نطاق واسع، وتتراص رفوف المكتبات في أميركا بترجمات الرومي كما أمست بعض أشعاره أغاني للأعراس.
عالمية الرومي
حدثت انعطافة كبرى في حياة الرومي حين التقى شمس الدين التبريزي العارف والمتصوف والشاعر الفارسي المسلم الصوفي، فيذكر براد غوتش تأثير شمس على شخصية الرومي في كتابه “سر الرومي”، وكيف جعله يراجع مسلماته الدينية عبر مناقشة نصوص القرآن ومساءلة خلفيته الدينية، إلى أن وصل الرومي بفضل شمس إلى المزج بين العشق الإلهي وقواعد الشريعة التي تعلمها في المذهب السني. وهذا ما جعل الرومي يختلف عن غيره من معاصريه كما ترى كشفاريز؛ فالرومي استطاع أن يجذب قاعدة عريضة من الأتباع في قونية، شملت المتصوفة والمسيحيين واليهود والحكام المحليين من السلاجقة السنيين.
ربما من أجل تلك العالمية التي حظي بها الرومي يرى باركس أن الدين يعد عنصرًا ثانويًا إذا ما قورن بجوهر أشعار الرومي. وأن فلسفة الرومي تتفق مع ما يدعيه، فقد أقدم الرومي نفسه على تغيير بعض الآيات نزولاً على الوزن والقافية في شعره.
ولكن صفي يرى أن عالمية الرومي وقابليته لكل الأديان ليست مبررا كافيا لانتخاب الروحي من شعره دون الإشارة إلى أن تلك التعددية كانت من منطلق إسلامي في الأساس وأنها تعددية الإسلام في جوهرها. ويرى أن قراءة الرومي دون معرفة بالقرآن، تشبه قراءة “الفردوس المفقود” لميلتون دون معرفة بالإنجيل.
استعمار روحي
بدأ الغرب في قطع الصلة بين الشعر الصوفي وأصوله الإسلامية منذ العصر الفيكتوري كما يقول أوميد صافي، أستاذ الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية بجامعة ديوك، إذ وقفت الصورة النمطية عن الإسلام وارتباطه بالبداوة والبربرية وأحكامه المتشددة، حائلا أمام تقبل هذا الدفق النقي والإنساني في سمو روح المتصوف العاشق. فكان لا بد من إيجاد مخرج بحيث لا يمس الصورة المعدة سلفًا ولا يزعزع عقيدة بعضهم بشأن تطرف المسلمين، فاستقروا على النظر إلى التصوف بوصفه مناهضا للإسلام لا ناتجًا منه.
وتميز هذا العصر بالعنصرية ضد المسلمين، نتيجة صدور قانون 1790، الذي عمل على تقليص عدد المسلمين الوافدين إلى ولايات أميركا، وركزت المحكمة العليا في الولايات المتحدة عام 1898 على إظهار عداء المسلمين لجميع الطوائف الأخرى، وخصوصًا المسيحيين. فجاء في مقدمة جيمس ريدهاوس لترجمة “المثنوي” أن الرومي يتكلم إلى أولئك الجوالين إدراكًا لله وشعورا بمعيته، من يمحون الذات، في التأمل الروحى، دون الارتباط بديانة بعينها.
بينما يصف صافي هذه الترجمات بأنها نوع جديد من الاستعمار سماه “الاستعمار الروحي”. وتكمن استعماريته في الاستيلاء على أفق روحاني لمسلمي البوسنة وإسطنبول وقونية ووسط إيران وجنوب آسيا، ومحاولة تعميمه بانتزاع الروحاني خارج سياقه الديني، وتجاوز النص بالتعديل والمحو. كما يتضح من النموذج التالي:
بعيدًا عن أفكار الصواب والخطأ
ثمة ساحة
سألتقيك هناك.
فالنسخة الأصلية كما كتبها الرومي لا تشير إلى “الصواب” أو “الخطأ”، بل تذكر على وجه التحديد كلمتي الإيمان والكفر.
ويظهر تدخل أربيري في ترجمة القصيدة الشهيرة “مثل هذا”:
“لو سألك أحدهم كيف يبدو الرضا التام عن كل رغباتنا الجنسية،
ارفعي وجهك وقولي، مثل هذا”.
وفي النص الأصلي:
كل من يسألك عن حور العين
اكشفي وجهكِ وقولي
كهذا.
فقد استبدل المترجم “الحور العين” التي تشي بخلفية الرومي الإسلامية برغباتنا الجنسية معللا أنه بسبب معرفته بالكتاب المقدس وليس تعمدًا للحذف، بل لأن القرآن تتعذر قراءته.
ومن هنا يستنكر جاويد مجددي، الباحث في الصوفية المبكرة بجامعة رُتجرز، أن يكون الثمن الذي يدفع مقابل الظهور الرائع للرومي في الترجمات الإنكليزية وحب الناس له، هو اجتثاثه من دينه وثقافته.
نقلا عن المنبر الثقافي العربي “ضفة ثالثة”