أسفرت الحرب التي نشبت بين شطري اليمن في العام 1972، عن نضج ظرفي في الوعي السياسي والوطني بضرورة اللجوء إلى مبدأ الحوار بديلاً للاقتتال بين أخوة التراب الواحد الذي تشرَّب كمية من دمهم لا تُقدّر بثمن قط.
في أتون التطرف السياسي والآيديولوجي الذي ساد فترة السبعينيات في الشطر الجنوبي، تجلّت جملة من السياسات والاجراءات التي عكست طبيعة وأبعاد هذا التطرف الذي كان يوصف حيناً باليسارية الطفولية وأحياناً باليمينية الانتهازية.
وكانت الحرب التي نشبت بين الشطرين في العام 1972 قد أسفرت عن نضج ظرفي في الوعي السياسي والوطني بضرورة اللجوء إلى مبدأ الحوار بديلاً للاقتتال بين أخوة التراب الواحد الذي تشرَّب كمية من دمهم لا تُقدّر بثمن قط.
حينها أنبرت ثُلَّة من المتطرفين للحيلولة دون نجاح أية خطوة في درب الحوار من شأنها انجاح خطوة مماثلة في مضمار الوحدة، فعمدوا إلى كل وسيلة متاحة وكل حيلة ممكنة لاجهاض مشروعي الحوار والوحدة معاً.
وكانت قصائد الشعر الشعبوي واحدة من هذه الوسائل، حيث ظهرت دفقات متلاحقة من الأشعار العامية المزدحمة بالشعارات الغوغائية التي تُجرّم أيّ تقدُّم جاد في مضمار المفاوضات الوحدوية.
وكانت هذه الأشعار -كحال الشعارات- تجد لها بالضرورة مجموعات كورالية تُردّدها بوعي أو بدونه، بل الحق أن كثيرين كانوا يُردّدون أشعاراً وشعارات لا يفقهون حتى معاني مفرداتها، ناهيك عن دلالاتها السياسية!
كانت المصطلحات الثورجية والمُقوّسات التنظيرية -حينها- موضة رائجة، وكان الكثيرون يُمكيجون خطابهم الفوضوي برتوش ذات ألوان تقدمية، وبضمنها ما كان يرفض اقامة علاقات طبيعية مع دول الجوار، بل ومع الشطر الآخر ناهيك عن التوحد معه كحق تاريخي ووطني مقدس للأجيال اليمنية على مر العصور، من منطلق الفرية الديماغوجية التي تُصنّفه نظاماً رجعياً محضاً، فأنطلقت الحناجر هاتفة: (يا علي ناصر ويا بن رُبيّع ويا أمين اللجنه المركزيه/ ما نبا وحدة مع حكم رجعي، والجماهير تحمل البندقيه).
وإذْ كان الوحدويون يأملون خيراً بخفوت حِدَّة هذه النبرة الغوغائية ضد القضية الوطنية الكبرى، فاذا بالحرب الثانية بين الشطرين تندلع في العام 1979، فيستبسل الغوغائيون أكثر برفع شعار “وحدة الأداة الثورية” كضرورة موضوعية لتحقيق الوحدة اليمنية، بمعنى اكتساح الشمال وقلع النظام السياسي القائم فيه من جذوره واحلال النموذج الجنوبي محله.
ولكن بمرور الأيام وتواتر الحقائق ثم الأحداث، بدءاً بأزمة 1979 – 1980 وانتهاءً بالأحداث المأساوية في يناير 1986، بهتت دعوات الانفصال وبحَّت أصوات الانفصاليين، فتناسى الناس مثل هذه الأشعار والشعارات التي أدركت غالبية الجماهير أنها تتعارض مع أحلامها الكبرى -وفي مقدمتها الوحدة- بعد أن تحقق حلم التحرر من ربقة الاحتلال والسلاطين في الجنوب وكهنوت الامامة النتنة في الشمال.
هذا ما كان من شعارات وأشعار السبعينيات تجاه الوحدة.. غير أن ثمة شعارات وأشعاراً -من الصنف ذاته وفي الفترة ذاتها- سادت الساحة الجنوبية (والعدنية بالذات) واستهدفت موضوعاً مغايراً تماماً لموضوع القضية الوطنية، هو موضوع القضية “الخنفوسية”.
ففي تلك الفترة سادت موضة على نطاق واسع، لكنها لم تكن موضة سياسية أو آيديولوجية، انما موضة أزياء و”لوك” على غرار كل الموضات التي سرعان ما تنتشر بين الشبان والمراهقين كانتشار النار في الهشيم. ظهر نوع من البناطيل أرتداه الشبان من الجنسين على السواء. ويعترف كاتب هذه السطور بأنه كان أحدهم. وقد تميّز هذا البنطلون بأنه يضيق كثيراً عند الخصر والفخذين ويتسع كثيراً تحت الركبتين إلى القدمين، وقد أطلق عليه الناس يومها تسمية “الشارلستون”. واقترن ارتداء الشارلستون باطالة شعر الرأس من قبل الفتيان الذين أطلق عليهم الناس تسمية “خنافس” -جمع خنفوس- وكان ذلك تشبُّهاً بظاهرة الخنافس التي أطلقها مطربو فرقة “البيتلز” في لندن خلال حقبتي الستينات والسبعينات وذاع صيتها في كل أرجاء المعمورة.
وقد قامت حينها حملة رسمية ساخطة على الشارلستون والخنافس، بلغت حدَّ مطاردتهم في الشوارع وحلق رؤوسهم وقصّ أذيال بنطلوناتهم، باعتبار هذه الموضة تجسيداً فجَّاً للتأثُّر بالمظاهر الغربية التي تعكس الجوهر الشاذ للمجتمع الرأسمالي!.. غير أن أطرف ما في الأمر أن الأبيات الانفصالية التي تبدأ بعبارة (يا علي ناصر ويا بن رُبيّع) عادت مرة أخرى إلى الشارع الشعبوي الفوضوي، يُردّدها الآلاف بحماسة منقطعة النظير.. ولكنها هذه المرة كانت تقول: (يا علي ناصر ويا بن رُبيّع ويا أمين اللجنه المركزيه/ ما نبا خنفوس ولا شارلستون، والجماهير تحمل البندقيه).. ما يعني أن الجماهير جاهزة دائماً لحمل البندقية والقتال بها في كل الأحوال، ضد نظام صنعاء، أو ضد خنافس عدن.. لا فرق!
لقد سقطت فرية الحكم الرجعي في صنعاء والحكم التقدمي في عدن، وتوحّد الشطران في بوتقة نظام هجين، لا هو رجعي ولا هو تقدمي، ولا ديمقراطي ولا شمولي، ولا يشبه أحداً من قديم الزمان واليمان ولا شيئاً من حديثه ومعاصره البتة!
غير أن الخنفوس والشارلستون سيعودان يوماً، في حالة تعبيرية حادة عن انفصامية قائمة في الوعي أو في الوجدان أو في كليهما معاً، كما هو قانون الموضة عبر التاريخ، في السياسة كان أو الاجتماع أو الثقافة والفنون أو حتى في الأزياء و قصَّات الشعر!
و.. تذكَّروا هذا الكلام في قادم الأيام.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
*المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.