وراء “انتكاسة” الاسلام السياسي عاملان احدهما ذاتي يتعلق “بالاسلاميين” الذين قصّروا في تهيئة مجمعاتهم لاستقبالهم واحتضانهم والدفاع عن مشروعهم، والآخر موضوعي يتعلق بالمناخات المحيطة بهم، وما يملكه خصومهم من قوة ونفوذ لمحاصرتهم وتشويههم وافشال تجربتهم.
وراء “انتكاسة” الاسلام السياسي في عالمنا العربي عاملان اثنان: احدهما ذاتي يتعلق “بالاسلاميين” الذين قصّروا في تهيئة مجمعاتهم لاستقبالهم واحتضانهم والدفاع عن مشروعهم، والآخر موضوعي يتعلق بالمناخات المحيطة بهم، وما يملكه خصومهم من قوة ونفوذ لمحاصرتهم وتشويههم وافشال تجربتهم.
تعمدت –هنا- عن قصد عدم الاشارة إلى “الاخطاء” التي ارتكبها الاسلاميون، سواء في ميدان السياسة “مصر مثلا” أو ميدان القتال “سوريا مثلا”، وذلك لسببين: اولهما أن عُمْر التجربة ما زال قصيرا ومآلاتها لم تحسم بعد، والآخر أن الاسلاميين –كغيرهم- بشر يخطئون ويصيبون، وبالتالي فان وضعهم وحدهم على “ميزان” المحاسبة يتناقض مع العدالة التي تقتضي وضع الجميع امام موازينها وابراز الادلة والقرائن والشهود ايضا.. وهذا غير متاح بالنسبة لي على الأقل.
المشكلة –كما اتصورها- لا تتعلق بالاخطاء التي ارتكبها الاسلاميون، ووجدها البعض ذريعة “للانقلاب” عليهم او استدراجهم قبل ذلك إلى “الفخ” أو محاولة “الانقضاض” عليهم كما يبدو واضحا في المشهد السياسي العربي الذي “تماهى” مع الضغوط الغربية (الاخطاء هنا كاشفة وليست منشئة) ولكن المشكلة الأساس تتعلق برؤية “الاسلاميين” ومشروعهم سواء باتجاه الحكم والدولة أو باتجاه مجتمعاتهم او باتجاه “فهم” الدين الذي يستندون إليه في “تصميم” أفكارهم واتجاهاتهم، هنا يبدو السؤال حول “مشروعية” توظيف الدين لأغراض سياسية بحتة من قبل مجموعات أو حركات تعتقد بأنها وحدها تملك الحق في صياغة حياة الناس وفق ما تراه.. يبدو هذا السؤال ضروريا، أولا، لمعرفة ما إذا كان هؤلاء لا يستطيعون فعلا أن يقودوا مجتمعاتهم التي يفترض انهم يعرفونها وانهم فعلوا ما يجب أن يفعلوه لتهيئتها لاستقبال مشروعهم؟، وثانيا، لمعرفة ما إذا كان “ترتيب” اولوياتهم صحيحا، وخاصة اذا ما اعتمدوا فكرة الوصول للسلطة بدل الوصول إلى المجتمع لمنهج للتغيير والاصلاح، وثالثا، لفحص “تجربة” الحاكمية التي تماهى فيها “السلطان” مع إرادة الله تعالى في الغالب، ومدى قابليتها اليوم للاستمرار في ظل ما حدث في العالم من تغييرات ومستجدات على صعيد علاقة الناس بحكوماتهم وعلاقة الناس داخل المجتمع ببعضهم، والأهم من ذلك دور الدين –المفترض- للتأثير في هذه العلاقات أو ادارتها سواء على مستوى “مشروعية” ذلك أو جدواه.
للتذكير –هنا- فان “المحنة” الاولى التي تعرض لها الاسلام –كدين- خرجت من رحم “الصراع السياسي” ومع انه لم يكن آنذاك حركات أو جماعات مسجلة باسم “الاسلام السياسي” إلا أن “السياسة” نجحت في افراز اتجاهين داخل الحقل الاسلامي، ولكل اتجاه فهمه الخاص للدين، وتقديره الخاص لمصلحة “المسلمين”، لكن المجتمع آنذاك لم يكن منقسما بهذه الحدة، كما أن “التعددية” فيه لم تكن واضحة كما هي الآن في مجتمعاتنا، وبالتالي فان دخول “السياسة” على خط الدين اسهمت في تقديم حالة من الصراع الطويل بين الديني والسياسي وبين السلطة التي تماهى فيها الديني والسياسي معا وبين المجتمع الذي تنازل عن “ارادته” لمصلحة اجتماع الامة ووحدتها.
للتذكير –أيضا- فان اول دستور اسلامي أصدره الرسول صلى الله عليه وسلم “وثيقة المدينة” كان ذا طابع مدني، لم يتضمن اية اشارة لنص قرآني او لمعنى يفيد “بهيمنة” الاسلام –كنظام- للحكم على المجتمع المتعدد آنذاك في أديانه وأعراقه، وانما تضمن بنودا تنظم حياة الدولة الناشئة وتحدد واجبات وحقوق المقيمين فيها على أساس الاحترام المتبادل والتضامن وعدم الاعتداء.. والحفاظ على هوية المجتمع المشتركة التي لم تكن آنذاك قد اخذت شكلها “الاسلامي” بشكل نهائي.
لا احد –بالطبع- يستطيع أن يدعو إلى عزل”الدين” عن الحياة، ولا إلى منع “الاسلاميين” من ممارسة العمل السياسي وفق “المرجعية الاسلامية” ولا إلى تحرير “السياسة” من “الدين” بأنْ تكون مستقلة تماما عنه، لكن يمكن التفكير جديا في بضع مسائل ضرورية، اولاها، اعادة ترسيم العلاقة بين الدين والسياسة ومنع توظيف احدهما لمصلحة الآخر سواء من الطرف السياسي أو الديني، وثانيها، ضرورة “تكيف” العاملين في حقل الاسلام السياسي مع “مدنية” الاسلام التي تفرض عليهم عدم “التمييز” بالاسم أو الشعار ما داموا يعيشون في مجتمعات أغلبيتها اسلامية، وثالثها، تقديم اولوية الوصول للمجتمع على الوصول للسلطة، وتصحيح مفهوم “الحاكمية” الذي استقر فهمه في سياق “الغلبة” باعتبار أن فكرة “إدامة” الاسلام وبناء الدولة تقوم بقهر السلطان لا ببناء الانسان.
ورابعها ضرورة الفصل بين المجالين العام والخاص عند اقحام مسألة “الاحتكام للدين” أو الاستناد إلى قيمه في تدبير شؤون المجتمع، فقيم الدين في المجال العام مفتوحة أمام مشتركات يجمع عليها أغلبية الناس مثل الحرية والعدالة والمساواة.. الخ، أما قيم الدين في المجال الخاص فمتروكة لما يقرره الأفراد وفق علاقتهم مع الله تعالى، وما لم تهدد سلوكياتهم –هنا- المصلحة العامة أو استقرار المجتمعات ووحدتها فان التدخل فيها يجب أن يكون ممنوعا من أي طرف، حتى من الدولة نفسها.
باختصار، يحتاج “الاسلاميون” الذين يواجهون اليوم استحقاقات صعبة قد تعصف بتجربتهم، إلى إعادة فحص “مشروعهم” سواء على أساس ديني أو سياسي أو اجتماعي، وإلى ممارسة “نقد ذاتي” جاد للتراث التاريخي الذي يستندون اليه في ادبياتهم الفكرية والسياسية وممارساتهم العملية، والى مواجهة حقيقية مع اسئلة مجتمعاتهم وخصومهم، وفي ضوء اجاباتهم عنها يمكن ان يحددوا خياراتهم سواء باتجاه “التكيف” أو “الاقتحام” أو “الانسحاب” أو باتجاه اولوية “الحكم” أو اولوية “الحرية” بمعنى ايهما أجدى لهم في هذه المرحلة “خلّوا بيني وبين الناس” أم “خلّوا بيني وبين السلطة”؟
*المادة خاصة بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.