غير مصنففكر وثقافة

كتاب قلب اليمن.. أحوال اليمن بعد “العزلة” التي فرضها النظام الإمامي

الكتاب للمؤلف المقدم محمد حسن المحاويلي، عضو البعثة العسكرية العراقية، مطبعة المعارف-بغداد، 1947

يمن مونيتور- كتب: نبراس الكاظمي/
الكتاب للمؤلف المقدم محمد حسن المحاويلي، عضو البعثة العسكرية العراقية، مطبعة المعارف-بغداد، 1947
اقتنيت هذا الكتاب من إحدى مكتبات المتنبي، ولم أكن أعلم أن العراق كان قد أرسل بعثة عسكرية إلى اليمن في مطلع أربعينيات القرن الماضي. وما أثار انتباهي أن المؤلف تجاوز سيرة البعثة وإنجازاتها، وكان مجمل الكتاب ينصب على تعريف القارئ العراقي بتلك الديار البعيدة.
وحينها، أي في سنة 2011 عندما وجدت هذه النسخة، كانت نسائم الربيع العربي تهب على اليمن، وكنت مدركا بأن معلوماتي العامة عن اليمن شحيحة، ولا تتعدى النتوفات التي أتذكرها من مناهج الدراسة، المعنية بتعريف الطالب بأوطان العرب، فأتذكر سد مأرب، ومملكة سبأ، وشيئا عن اليمن الجنوبي، وعن توحيد اليمن سنة 1990، وكنت حافظا لاسم الجنرال علي عبد الله صالح، وكنت قد سمعت في الإعلام عن حروب الدولة مع جماعة الحوثي، ولا أكثر من هذا.
فاليمن، حالها من حال تونس، كانت بلادا بعيدة عني حتى في بداية القرن الواحد والعشرين. ولكن ظروف الربيع العربي حمستني لتناول كراس يجدد ما تراكم لدي من معرفة متجزئة عن اليمن ويزيد عليها، وهكذا استطاع هذا الكتاب أن يعود لتحقيق غايته الأولى، أي تعريف قارئ عراقي بتلك الرقعة من جنوب غرب الجزيرة العربية.
الكتاب مزيج ناجح من سردية الرحالة، والتحقيق الصحفي، والنَفَس الموسوعي، والتحليل الجيوستراتيجي. والمؤلف لم ينحاز إلى عالمه الخاص كمدرب لقوات المشاة، وإنما عرج على شتى المواضيع، منها الجغرافية، وحال المرأة، وواقع الأقلية اليهودية، والطبقية الاجتماعية السائدة، بالإضافة إلى تبويبات حول التاريخ والقبائل والمعادن .. إلخ.
وربما كان يدرك المؤلف محمد حسن المحاويلي بأن مشاركته في تلك البعثة قد منحته فرصة ثمينة لاستطلاع أحوال اليمن من بعد ما كان يعرف بسنوات “العزلة”، التي امتدت نحو ربع قرن تحت ولاية الإمام يحيى، مما أوجب عليه أن ينقل مشاهداته إلى فضاء أكبر، كونها كانت تجربة فريدة في وقتها وبالنسبة له تمثل “باكورة مجهودي الأدبي والعلمي بالإضافة إلى خدمتي التي كرستها منذ ربع قرن للعرش الهاشمي المفدى” كضابط في الجيش العراقي.
لا أدري أي الروايات عليّ أن أصدقها والتي تتناول أسباب إرسال هذه البعثة من العراق إلى اليمن 1940-1943. لربما هي امتداد للحسّ العروبي في فترة الملك غازي، والذي كان يهتم بتلك المملكة البعيدة إلى درجة أنه وفر زمالات دراسة لعدد من الضباط اليمنيين في الكلية العسكرية العراقية في منتصف الثلاثينيات. أم هل كان الحافز هو محاصرة آل سعود، أنداد الهاشمين، من خلال تحالف يجمع ما بين هاشميي العراق واليمن؟ أو ربما كانت البعثة انعكاسا لأهواء واهتمامات وزير الدفاع آنذاك، الفريق طه الهاشمي، الذي كان قد قضى عددا من سنوات خدمته في اليمن حينما كان ضابطا في الجيش العثماني.
وأحد الأسباب الأخرى تكمن في انطلاق الحرب العالمية الثانية، ومخاوف الإنكليز من تمدد النفوذ الإيطالي عبر البحر الأحمر من الحبشة إلى اليمن، ومن ثم تهديد مستعمرتهم في ميناء عدن وكذلك المحميات التسع التي كانوا يديرونها في اليمن الجنوبي، ولذا توجب التواصل مع إمام اليمن، وتعزيز قدرتاته الدفاعية، من خلال حلفائهم العراقيين.
استوقفني أمران في الكتاب، الأول تجربة المحاويلي في السفر، والتي يبدو أنها كانت الأولى من نوعها بالنسبة له، وبالتحديد تجربته على متن باخرة ناركندا “الفندق العائم” من ميناء بور سعيد إلى عدن، والتي كانت “تعج بالفتيات الإنكليزيات الهاربات من إنكلترا اللائذات ببلاد الشرق… وهاته النسوة بملابس الرياضة تمارس شتى الألعاب وتستحم في حوض الباخرة البديع ويرقصن وينشدن”، ولهذا السبب فالباخرة، على حد وصفه، “جزء من الجنة التي وعد الله بها المتقين”!
واستذكر المحاويلي بالأخص “تلك الحيزبون الاسترالية الشمطاء التي أطلت على الستين من عمرها وبيدها كأسها وهي تغني بصوت رخيم كأنها فتاة في العشرين وترقص رقص الشابات وتدعو الشباب إلى منازلتها الرقص وتنادي بهم هيا: إن الحياة كلها لذة وسعادة وهي –الحياة قصيرة –هيا إلى اهتبال الفرص واقتناصها. هذا الطراز من الحياة لم نألفه نحن الشرقيين، ولكننا لمسناه وتذوقناه بعد أن رأينا القوم يعطون ما لله لله وما لقيصر لقيصر. واعتقد أن هذا من أسباب فوزهم في جميع أدوار تأريخهم. ” ومن ثم انبهر عندما سارت نفس هذه السيدات والفتيات صبيحة يوم الأحد بكل خشوع وهدوء إلى القدّاس المقام على ظهر الباخرة أيضا، وكأنهن لم يكنّ في حالة من الصخب والمرح في الليلة التي سبقتها، فكان استنتاجه: “فما أحرانا نحن الشرقيين أن نقتدي بهؤلاء وإن صح لي أن أورد المثل السائر: ساعة لقلبك وساعة لربك لتقريب الحياة إلى مثلها العليا”.
ومن ثنايا هذه الأجواء الجميلة، حط المحاويلي رحاله في اليمن “المُنعزل” حيث “لا توجد في اليمن معارضة تستطيع أن تظهر رأيها كما هو المألوف في العراق ومصر والممالك الأخرى، فلا جرائد ولا أحزاب ولا هيئات ولا نواد ولا تشكيلات سياسية ولا جمعيات ثقافية …” وحيث يتوجب عليه الإشارة إلى الإمام يحيى بسيل من الإطراءات من باب “سليل الأكرمين، وقطب من أقطاب البيت العلوي، في القرن العشرين، ذلك البيت الهاشمي المتعالي الشامخ، الذي آمن الناس بعد خوف، وأرشدهم بعد ضلال، وأسعدهم بعد شقاء. وقد عرف الإمام – أورف الله ظله – كابرا عن كابر بطيب النجار وشرف الذمار وسمو الأحدوثة ونبل التضحية، والثبات على المبدأ والعزم الصارم، صحيح النسب صادق الحسب”.
وكانت توجد في اليمن مطبعة واحدة، من بقايا أعمال العثمانيين، وكانت تصدر جريدة أسبوعية ومجلة شهرية، ولكن هاتان توقفتا ريثما تقوم البعثة العراقية بإعداد وطباعة المناهج العسكرية والكراسات التدريبية الجديدة للجيش اليمني.
فلا أعرف أيهما شكلت لديه صدمة ثقافية أكبر؟ العاصمة صنعاء أم باخرة ناركندا؟
ولعل أغرب حادثة يسردها لنا المحاويلي تتعلق بمساءلته أحد أبناء الإمام يحيى، عند زيارة الأخير إلى بغداد سنة 1947، أي قبيل انتهائه من الكتابة. سأله إن كانت المناهج التي أعدها الضباط العراقيون لا تزال يُعمل بها. ويوضح في الكتاب قوله: “فطمنني سموه بأن التعاليم العسكرية العراقية والروح العسكرية العراقية التي غرسناها في هذا الجيش ما تزال سائدة ولله الحمد، وأن وحداته ما تزال في نمو واطراد”.
ولكن الغرابة تكمن في أن للقصة بقيّة، إذ أن أحد ضباط البعثة العراقية، جمال جميل من أهل الموصل، قاد انقلابا عسكريا في السنة التالية ضد الإمام يحيى، وتسبب في قتله، وهكذا بدأت دوامات الانقلابات في اليمن، وصعود جيل من الضباط العسكريين الطموحين جدا، منهم علي عبد الله صالح في سنوات لاحقة، إلى سدة الحكم. ولا أدرى ما كانت الغاية من إرسال جمال جميل مع هذه البعثة، إذ أنه كان مشاركا في أول انقلاب عسكري في البلدان العربية المستقلة سنة 1936، أي ما يعرف بانقلاب بكر صدقي، وكان جمال جميل يعمل بصفة مرافق بكر صدقي، وكان هو أحد الذين قاموا بإطلاق النار على الفريق جعفر العسكري، المعروف بأنه مؤسس الجيش العراقي الحديث، فأردوه قتيلا، ولكن شاءت الأقدار أن يتم العفو عن جمال جميل، حتى من بعد مقتل بكر صدقي، إلى أن انتهى به الزمن عضوا في البعثة العسكرية العراقية، وثم قائدا لأول انقلاب عسكري في اليمن.
فيبدو بأن طموحه في الحياة لم يكن يتماشى مع طموحات زميله المحاويلي، الميّالة إلى المرح والمعرفة. والإرث الأهم لتلك البعثة كان تصدير حمى الانقلابات من العراق إلى حواضن أخرى حول الشرق الأوسط.
لم استطع التوصل إلى ما حل بالمحاويلي من بعد نشره لهذا الكتاب، وهل شارك هو أيضا في الانقلابات العسكرية المزمنة التي أصابت العراق منذ نهاية الخمسينيات. ويبقى لي أن أقول بأن “خاطري انكسر” على المحاويلي، لأنه بعد قضاء ثلاث سنوات في اليمن، عاد إلى العراق براً، من خلال مكة والمدينة والرياض وثم الكويت، وليس على متن الجنّة العائمة المسماة “ناركندا”.
*تلفزيون الحرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى