كتابات خاصة

يوميات مدينة حزينة

حسن عبدالوارث

 ذات مساء كئيب، ساد الظلام في مدينة الضياء.

 ذات مساء كئيب، ساد الظلام في مدينة الضياء.
لا ضوء في الدروب.. لا ضوء في البيوت.. لا ضوء في القلوب.
الأعين الحيرى تعوم، تحوم، في عالمٍ لا مُتناهٍ من السواد السائد في كل شبر من الأماكن والنفوس، حتى في دار القمر.
قال أحدهم مُبرّراً: ربما أنقطع التيار الكهربائي..
قال آخر ببلاهة : ربما تحطمت أعمدة الضوء..
قال ثالث ساخراً: ربما أضرب عمال شركة النور..
لكن الفتى صرخ قائلاً: لم يحدث هذا ولا ذاك.. وأنتم تعرفون جيداً ما الذي حدث…
ولكنهم أسكتوه قبل أن يُكمل عبارته!

جال الفتى في الطرقات على غير هدى. كانت قدماه تزحفان ببطء وبخطوات مُتكسّرة.
راح يُحدّق في كل الجهات الأصلية والفرعية ، فلا يرى الاَّ الظلام.. فالعتمة تحاصر كل الأشياء والأجساد والأحاسيس.
توقّف الفتى عند جمعٍ من الناس مُتكوِّمٍ في ناصية الشارع.. جلس القرفصاء بينهم.. ثم تساءل بحزنٍ ودهشة:
–  هل ترتضون الظلام؟
لم تَرْنُ اليه عين.. لم تَدْنُ منه أذن.. ولم تمتد اليه يد.
أعاد السؤال عليهم، بالحاح وعناد وصبر، مرةً أخرى وثالثة.. وعاشرة.
بدأ السكون يتبدّد.. وبدأت العيون ترنو، والآذان تدنو، والأيدي تمتد.
وفي الجانب الآخر من الشارع.. بدأت النفوس تضطرب، والأعناق تشرئب.

ذات ليلة ، أنتفض أحدهم هائجاً ، كثورٍ أسباني أستفزّه الميتادور بقطعة قماش ، وصرخ بعالي الصوت وأجشِّه:
–  كفى.. كفى.. لم أعد قادراً على الصبر.. لم أعد قادراً على الاحتمال.
هبَّ الناس من كل حدبٍ وصوب لمعرفة كُنْهِ الأمر.. وتطلّعت العيون متسائلة بحيرة بالغة:
–  ما الذي حدث له هذه الليلة؟
غير أن أحداً لم يدرِ حقيقة ما حدث الاَّ حين راح اليأس يستشري كالوباء في القطيع.
أخذ الفتى حينها اليراع.. طفق يضع خطوطاً لاغية للأرقام في وجه الروزنامة:
–  يوم مضى.. شهر مضى.. عام مضى…
سمع أحدهم يقول له ساخراً:
–  لا تُتعب نفسك أيها الأحمق.. سيطول الليل، ويطول انتظارك!
 

طال الظلام في الدروب والبيوت والقلوب.. طال الظلام في العيون.
 
–  عامان مضيا.. ثلاثة أعوام مضت.. أربعة أعوام…
 
وعاد الصوت الناهي يصل الى مسامعه فيتحطم على طبلة أذنه .

لمع البرق.. قصف الرعد.. هطل الغيث غزيراً على السهول والهضاب والأودية.
سالت دماء على الثرى، فارتوت الأرض حدَّ الثمالة.
ماتت الأشجار واقفة .. تفتّقت زنابق كثيرة .. وأينعت ثمار الباباي.
أخذ الفتى اليراع ثانيةً.. صوَّبه شطر الروزنامة.. وطفق يلغي كل الأرقام الماضية.
اكتست المدينة بضوء ربّاني في ذلك الصباح الذي جاء على غير موعد.
عمَّ الضياء البيوت والدروب.. وبَدَتْ ثمة خيوط شعاعية بلون الذهب تنساب في العيون والقلوب. 
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى