مائة وعشرون رسالة يكتبها عدنان محسن، الشاعر العراقي المعاني حاضره مغتربا أسِفا حزينا، لجدّه غوديا حاكم لكش السومرية. إنه لا يناجيه حاكما، بل يراسل ذلك العراقي المتأمل ما بين يديه المعكوفتين مضمومتين حول جسده جالسا في تمثاله ولكن في أرض بعيدة غريبة في متحف باريسي، يعاني كالشاعر في المكان ذاته مجلوبا من زمنه السحيق ومكانه الأبعد، وكقوسين يؤطران الرسائل ثمة واحدة بلا رقم في الاستهلال، وأخرى في الختام لهما دلالتهما في القراءة كما سنرى.
مائة وعشرون رسالة يكتبها عدنان محسن، الشاعر العراقي المعاني حاضره مغتربا أسِفا حزينا، لجدّه غوديا حاكم لكش السومرية. إنه لا يناجيه حاكما، بل يراسل ذلك العراقي المتأمل ما بين يديه المعكوفتين مضمومتين حول جسده جالسا في تمثاله ولكن في أرض بعيدة غريبة في متحف باريسي، يعاني كالشاعر في المكان ذاته مجلوبا من زمنه السحيق ومكانه الأبعد، وكقوسين يؤطران الرسائل ثمة واحدة بلا رقم في الاستهلال، وأخرى في الختام لهما دلالتهما في القراءة كما سنرى.
محتوى الرسائل يتمحور حول عناء الشاعر في حياته وتجربته وواقعه. لهذا أخذت الرسائل شكل برقيات-قصائد قصيرة وبعضها متوسط الطول. تلتمُّ جميعا حول حبكة واحدة هي الشكوى المريرة مما حول الشاعر وفي أفقه ووعيه. رغم علمه بأنه لن يجد جوابا لدى الجد المضموم اليدين، المختفي وراء كتلته النحتية والقادم من زمن موغل في القِدَم، مضى وانقضى؛ لذا كانت الرسائل بوحا ذاتيا وتبسطا مع جدٍّ افتراضي لا يسمع ولا يجيب. واتسعت الشكوى وفضاءات البوح لتحتوي هموم الشاعر في مجمل حياته وتجاربه في الشعر والوحدة والعزلة والحب والوطن والموت والآخرين.
ولكن ماذا يريد العراقي الغريب من جده الأشد غربة؟ مطالبه بسيطة لكنها كالسهل الممتنع في بريّة الكلام. وعلى هذا تقوم قصائد الشاعر عدنان محسن في ديوانه (رسائل إلى غوديا) سنلاحظ حس الشكوى والألم في الرسائل-القصائد المتشظية متحصنة بأرقامها المتسلسلة غير بعيدة عن بعضها؛ فكلها تجأر بالألم على ما فات وما سيأتي.
قصائد الشاعر عدنان محسن في هذا العمل تهب القارئ فرصة ثمينة لا تسنح كثيرا: أن يتعرف على فكر في الشعر وسخرية دامعة ومفارقات سردية حيث تنتهي شظايا الكتاب دوما باستدارة لا تحضر في أفق انتظار القارئ وهذا تعميق ذكي للمفارقة التي تمثل عصب الخطاب الشعري في العمل. لننتبه للاستهلال الذي يعني في موجهات القراءة تعارفا مع الكاتب. إنه يتمنى أو (يريد) فقط أن ينفرد بنفسه ليرقص وحده مثل عصفور جريح. بينما يريد سواه أن يكون شاعرا كبيرا أو مترجما كبيرا.
رسائل عدنان محسن الشعرية هنا كما قصائده في أعمال سابقة منشورة له، تذكرنا بمذاق الستينيات الشعرية العراقية رغم أن الشاعر من مواليد عام 1955 لكن التجييل اليوم يتم احتكاما للشعر، لا أعمار الشعراء. وبهذا تستطيع القراءة النقدية أن تضع قصائد عدنان محسن في مناخ الستينيات، بهذا التمرد المزدوج على السائد اليومي من جهة وتقاليد الشعر المستهلكة بالموضوعات المكررة والإيقاعات الفجة من جهة ثانية. وتؤكد اعتقاده بالسوريالية – التي ألف فيها كتابه المغامرة السوريالية – منهجا وأسلوبا مناسبين للحظة العراقية الراهنة بالتباساتها وفوضاها وتراجعات الحياة فيها، وللحظة الشعرية أيضاً، لما يسودها من عودة للماضي الشعري كفنٍّ وأعراف وموضوعات تقليدية ونظم باهت. وهي انعكاس لمعايشته التراث الشعري والفكري الغربي والفرنسي خاصة، وتزود قصائده بدوافع ومحركات ثقافية تهذب الخطاب الشعري، فتقل إيقاعاته صخبا، بينما لا يتعالى الشاعر على أي موضوع يراه صالحا لحالته ومزاجه.
اليأس واضح في الرسائل. وثمة شواهد لا أريد أن أستبق قراءة القارئ لأذكرها، لكني لن أمنع نفسي من التذكير برسالته المرقمة (53) حيث يناجي جده عن حال الشعر اليوم؛ فيختصر المسألة كلها متخيلا الشعراء في (حالة الشعر التي لا تسر عندنا) أفراداً في جيش مكسيكي (لماذا؟؟) بلا مراتب:
فهذا قائد فيلق الشعر الموزون
وعلى ميمنته آمر قصيدة النثر
وفي الميسرة نقيب النص المفتوح
جيش من الرتب العالية
لا يوجد عريف للشعراء
ولا رئيس عرفاء
ولا حتى نائب شاعر
تلك هي الحال الشعري كما تصوره مبسطا المسألة بصورة جيش من القادة. لكن هذا كله يجري داخل الثكنة العسكرية، حيث الأمور مسورة لا يراها أو يشارك فيها أحد سواهم، لكن الذروة أو بيت القصيد الذي يعدل المسألة سيبين المفارقة:
في داخل الثكنة
لا أحد يقرأ لأحد
أما خارجها
فيردد الناس بشراهة
أشعار الجنود الفارّين وحدهم
كيف لخصتْ قصيدة واحدة موقف الشاعر، وحملت رؤيته بطرافة ووضوح
وعمق؟ بهذا الخيال المميز والفكر المعضد للمخيلة. فالشاعر وهو ابن التجربة الرافضة للسائد والخارجة على اليقين المشترك البائس يرى نظم شعراء الرتب العالية فارغا لا يقرؤه حتى منتسبو الثكنة العسكرية الشعرية. وحدهم الجنود-الشعراء الذين يفرّون بقصائدهم من الداخل يردد الناس أشعارهم بشراهةّ!
هذا الرفض سنراه منسجما في المواقف كلها: الشهداء في إحدى الرسائل يموتون مرتين: بأيدي قتلتهم ثم (عندما يحتفل السفهاء بموتهم /بين حين وآخر). والقصيدة مثل أنثى تمشي في غرفة الشاعر، لكنها في النهاية تأوي إلى ورقتها بينما يستسلم هو للنوم في سريره. وفي الحب أيضا: المرأة حاضرة بهامش لا يطيقه الشاعر. دوما ثمة إشكال ما مع من يحب. أو يحاول الوصول إليها وبعد عرق وتعب وضياع يصل فيجدها نائمة!، لكن الرسالة الرابعة تجرُد حبيبات الشاعر، فيعترف لجده أنه مهزوم معهن دوما؛ لأنهن في عالم آخر بعيد وغريب. والوطن له حصة في حفلة اليأس هذه، فالأصحاب فيه ماتوا وتركوا الشاعر وحيدا كمن يعيش في الوقت الضائع! الموت حاضر في النصوص بقوة، لكن أمنية الشاعر الوحيدة أن يكون لأبيه قبر بحجم مكتبة. ترميز للتماهي مع الحروف التي تؤسس حياته ويراها أفضل طريقة لتخليد أسلافه بمكتبة بدل شواهد قبورهم.
يهتم عدنان محسن باللغة متعمدا تبسيط مفرداتها، وعلاقات ألفاظها المركبة بشكل لا تعقيد ولا غموض فيه. ذلك واحد من أسرار نصوصه ومحبتها وخفة وقعها. في اللغة يكتب نصا يطفو فوق القواعد
(كل ما أريد / أن أكتب ببساطة على شاكلتي/بساطة تشبه الأسمال التي تلبسني…وأن أختم قصائدي بعلامات تعجب /بعضها في آخر الجملة /والبعض الآخر يضعها من يقرؤني/أينما يشاء).
وحين مات أجمل الأصدقاء واحترقت البلاد وبات الشاعر وحده، لم يجد إلا أن يبدل حواسه ليعيش عالمه:
صرت أرى الناس بأذني
أسمع الأفكار بعيني
أذوق الأشياء بأنفي
وأشمها بلساني
وبتقدم العمر
صرت قادرا على لمس الناس والأفكار والأشياء
وأنا مكتوف اليدين
الرسائل تموّه خصوصيتها بالتبسط مع الجد الذي يتسلم أخطر الرسائل: الشاعر في المنفى، لكنه يحس أنْ لا وطنَ له بعدُ ولا منفى. ففي الوطن تعلَّم ألّا مكان له فيه، وعلّمه المنفى أن مكانه الوحيد هو الوطن.. فضاع الاثنان!
بهذا سيختم الشاعر رسائله خارج الترقيم بعد الحسرة الأخيرة، مخاطبا جده السومري الذي كان يكتب بالمسامير: بأن رغبته الأخيرة هي أن يكون قطة بسبعة أرواح، يغامر بخمسة منها، ويكتب له بالسادسة، وينظر للآخرين بروحه السابعة!
مأدبة شعرية تفاجئ بمعروضاتها وتلامس عمق أرواحنا، ونحن نقلّب محتوياتها المنطوية على هموم أعلاها الفن، ولكن ظل دمها يقطر على الورق ….
نقلا عن المنتدى الثقافي العربي “ضفة ثالثة”