لطالما تجاهلت الكتابة في هذا الموضوع ظنا مني أن المجتمع قد قطع شوطا في رفض أوهام تتعلق بموضوع السحر، ولكن تكرار الأسئلة من الأصدقاء حول هذا الموضوع جعلني أتجه إلى الكتابة فيها بشكل مختصر ومركز، أحاول التركيز على أوهام نشأت حول قضية السحر لا تخدمها مناطق القطع في النص الديني، ولا تصدقها مناطق القطع في مخرجات العلم الحديث، ولذا كان لابد من استبعاد مناطق الظن في النص الديني وفي العلم لنزيل ذلك الفصام بينهما..
لطالما تجاهلت الكتابة في هذا الموضوع ظنا مني أن المجتمع قد قطع شوطا في رفض أوهام تتعلق بموضوع السحر، ولكن تكرار الأسئلة من الأصدقاء حول هذا الموضوع جعلني أتجه إلى الكتابة فيها بشكل مختصر ومركز، أحاول التركيز على أوهام نشأت حول قضية السحر لا تخدمها مناطق القطع في النص الديني، ولا تصدقها مناطق القطع في مخرجات العلم الحديث، ولذا كان لابد من استبعاد مناطق الظن في النص الديني وفي العلم لنزيل ذلك الفصام بينهما..
أول سؤال في هذه القضية هو: ما هو السحر؟ هل هو التلبيس والخداع والخلط؟ أم هو تغيير طبائع الأشياء؟ أم هو استخدام لقوى غيبية (الجن) للإضرار بالآخرين أو غير ذلك، وإجابة هذا السؤال ستحسم لنا الجولة الأولى في هذا الموضوع، وأول إجابة سأبحثها في كتب اللغة ثم أتجه إلى النص القرآني لنتتبع كلمة “سحر” في سياقاتها وننظر إلى أي معنى تتجه من هذين التعريفين.
تذكر كتب اللغة عدة معان للسحر فيقال إنه: إخراج الباطل في صورة الحقِّ، ويقال هو الخديعة، ويقال هو كلُّ ما لَطُفَ مأخَذُهُ وخفي سببه، يجمع كل تلك التعاريف أنه “التلبيس والخداع والخلط” أما السحر بمعنى تغيير طبائع الأشياء فلا أساس له في اللغة.
أما في النص القرآني فقد ذكر السِحر بمختلف مشتقاته في القرآن الكريم 60 مرة. وأكثر تكرار لها جاء في سياق الآيات التي تتحدث عن معجزة موسى مع السحرة، وقد جاءت آيات لتوضح ماهية السحر، فتذكر الآية الأولى بأنه “تخييل” ثم تشرح آية أخرى ما هو هذا التخييل بأنه “سحر للعين فترى الشيء على غير حقيقته” وخلاصة ما جاء في الآيتين أن السحر لا يعدو أن يكون تخيلا تخدع فيه العين، ولا تتغير طبيعة الشيء وإنما تبقى على حالها، بينما يحدث التأثير فيما تنخدع فيه العين فقط، يقول تعالى: (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ) ﴿٦٦ طه﴾ وقال تعالى: (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) ﴿١١٦ الأعراف﴾ فالسحر بحسب هذه الآيات علم يستخدمه الساحر ليظهر الأشياء على غير حقيقتها فيخدع الناس بذلك ظناً منهم أنه فعلاً قد قام بتغيير حقيقة الشيء إلى شيء آخر.
فالسحر في حقيقته خفة وسرعة للشيء فيبدو من سرعته ساكنا، وقد صار اليوم يسمى بعلم الخدع البصرية، يتم فيه خداع العين بسرعة الحركة، إذ من المعلوم أن العين ترى الحركة ضمن سرعة معينة فإذا تباطأت الحركة ظهر الشيء وكأنه ساكن، والعكس أيضاً إذا تسارعت الحركة ظهر الشيء وكأنه ساكن.
وتعلق الآية على موضوع سحرة موسى بأن الساحر لا يفلح “و َأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى» (طه : 69) فإذا كان الساحر يستطيع تغيير طبائع الأشياء فكيف لا يكون فالحا؟
لو كان يستطيع الساحر أن يحول طبائع الأشياء ويؤذي هذا ويضر ذاك فلم يكتسب من هذه المهنة, ولم لا يغني نفسه عن طلب فلوس من هذا أو من ذاك, ولم لا يجعل نفسه غنيا بربط عقد محبة بينه وبين محافظ البنك المركزي؟
هذا هو السحر الذي ذكره القرآن، إلا أن هناك آية سورة البقرة ربما تظهر معنى آخر للسحر ولذلك استدل بها البعض على أن حقيقة السحر هو التأثير على العقل بواسطة تلبس الجني في الإنسان، أو بمعنى آخر هو تسخير الجن لإحداث أثر ما يغلب أن يكون ضارا بشخص آخر.. فهل الآية تخدم فعلا هذا المعنى أم أن الآية لا تخرج عن سياق الآيات الأخرى التي وضحت معنى السحر كما ذكرت سابقا؟
دعونا نتوقف عند الآية لنرى المعنى الأقرب للآية ومدى دلالته على ما ذهبوا إليه، يقول تعالى:( وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)(البقرة 102).
أولاً: هذه الآية ليس فيها أي دليل على دخول الجن في الإنسان، فهي لا تفسر عملية السحر بأنه دخول للجني في الإنسان ولا تذكر ذلك لا من قريب ولا من بعيد فمن أين أتوا بذلك؟
ثانياً: جاءت حول الآية روايات إسرائيلية مختلقة هي من رسخت أوهاما حول الآية بينما لم تنص على ذلك الآية.
ثالثاً: فسروا الشياطين في الآية بأنهم شياطين الجن، بينما جاء اللفظ مطلقا، فيحتمل أن يكون شياطين الجن ويحتمل أيضا أن يكون شياطين الإنس يقول تعالى: “شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ” والأقرب في هذا السياق أن الشياطين هم شياطين الإنس لعدة قرائن، منها أن الآية تتحدث عن فريق من اليهود وهناك آية أخرى وصفت علماء اليهود في علاقتهم مع المنافقين بالشياطين لما كانوا يقومون به من خداع وتلبيس حول نبوة محمد عليه السلام، قال تعالى: ” وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) “، وقرينة أخرى أن الآية ذكرت أن الشياطين يعلمون الناس السحر، فالسحر هنا كان يعلم تعليما والتعليم لا تقوم به الجن لعموم الناس وإنما به الإنس أو بالتحديد علماء وأحبار اليهود.
رابعاً: أكثر ما يستدلون به في وصف السحر هو قوله تعالى: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) مستدلين بذلك أن التفريق يكون بقوى غيبية، بينما الأولى أن نذهب لتفسير الآية بما هو متوفر من أدوات مشاهدة في التفريق بين الزوجين، إذ تستطيع وسائل الوسوسة البشرية والدسائس والخدع ووصف كل واحد منهما بأوصاف تجعل القلوب تتنافر ثم تفترق، وهذا ملاحظ فيما نراه في المجتمعات، والآية تطلق على ذلك علما “فيتعلمون” بمعنى أنهم صاروا يدرسوه كقواعد مستفيدين من خبرة بعضهم، ولو كان الأمر استخداما للجن لما احتاجوا للتعليم.
خامساً: هناك اختلاف حول “ما” هل هي موصولة أم نافية؟ في قوله تعالى: وما أنزل على الملكين، وما يعلمان من أحد، فهناك من اعتبرها نافية فكان للآية معنى آخر، والمشهور عند المفسرين أنها موصولة وهو المعنى المشهور، وسواء كانت موصولة أم نافية فإنها لا تؤكد ما ذهبوا من معنى للسحر.
فيكون ملخص الآية بالقول إن “ما” نافية أنه لم ينزل شيء على الملكين ببابل هاروت وماروت، ولم يعلما أحدا شيئا من السحر الذي يدعون أنه أنزل عليهم، فلم ينزل عليهما شيء ليقولا إنما نحن فتنة وبالتالي فكيف يتعلمون منهم ما يفرقون به بين المرء وزوجه ؟
أما ملخص الآية على أن “ما” موصولة فسيكون أن الملكين كانا يعلمان اليهود المكايد والدسائس ليكيدوا بها البابليين الظالمين وليخففوا من الظلم الواقع بهم وكانوا يأمرون الناس بعدم الكفر بهم عند تعليمهم وبالفعل تعلم اليهود منهم ما يستطيعون به إثارة الدسائس والتفرقة بين أي متلازمين ولكن نجاح ووقوع هذه الخدع مرتبط بإذن الله أي وفق السنن الطبيعية الجارية في الحياة فإذا لم يكن وفق تلك السنن فإنه لا يقع.
سادساً: بداية الآية تذكر أن فريقا من اليهود ترك كتاب النبي محمد عليه السلام ليتجه إلى كتب كتبها أحبار يهود زاعمين أن تلك الكتب تعطي ما أعطيه سليما من قوة في تسخير الجن والريح له، والآية تبين أن سليمان لم يكفر باستخدام السحر في السوء، وأن ما عنده معجزة من الله له، والمعروف أن اليهود لم يعترفوا بنبوته وإنما اعتبروه ملكا فقط، فلا غرابة أن يشكوا في كونه من عند الله.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.