بعد مقتل الإمام يحيى وقيام الحكومة الدستورية استطاع ولي عهده أحمد حميد الدين أن يؤلب القبائل اليمنية ضد من قاموا بالثورة من أجلهم، فالتفوا حوله لينتقموا من أعداء الله وأعداء آل البيت 2- موقف الزبيري بعد مأساة 1948م
بعد مقتل الإمام يحيى وقيام الحكومة الدستورية استطاع ولي عهده أحمد حميد الدين أن يؤلب القبائل اليمنية ضد من قاموا بالثورة من أجلهم، فالتفوا حوله لينتقموا من أعداء الله وأعداء آل البيت! أصحاب الدستور الذين أرادوا أن يجعلوه بدلاً عن القران، كما أشاعت الدعاية الأمامية، وقد دخلوا صنعاء التي أباحها لهم الإمام أحمد وفعلوا بها الأفاعيل، وقام الإمام احمد بوحشية بالغة بإعدام العشرات من خيرة أبناء اليمن ونجا الزبيري الذي كان ضمن الوفد اليمني الذي سافر إلى جدة لاستقبال مندوب الجامعة العربية وقد هاجر إلى باكستان وهو لا يملك شيئا حتى جواز سفر ، فهل يأس الزبيري أو ندم على ما قام به من أجل هؤلاء الذين أيدوا الطاغية ووقفوا ضد من أراد لهم الخلاص ؟
كلا ..فهو يرى أنه إنما قام بواجبه وحسبه أن يموت وضميره مرتاح وان هذه التضحيات لن تذهب هدرا وستأتي ثمارها يوما ما :
حسبي من الأيام إني عشت لا
أحتمل الضيم ولا استعبدُ
ولا يموت ميت إن كان في
ذكراه ما يبقى وما يخلدُ .
نحن هدينا الناس من جهالة
وما علينا أنهم لم يهتدواُ!
نحن زرعنا وسقينا زرعناَ
دماً ويأتي بعدنا من يحصدُ .
إن هذا الموقف لا نجده إلا مع أصحاب المبادئ والرسالات الكبرى من النبيين والصديقين، ومن سار على نهجهم كالزبيري، لقد حاربت قريش نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وكسروا رباعيته وشجوا وجهه الشريف ومع ذلك قال وهو يمسح الدم عن وجهه “اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون”، لاحظ كيف أنه لم يستنكف من أن ينسبهم اليه “قومي” ثم دعى لهم بالهداية واعتبر موقفهم بسبب جهلهم انهم لا يعلمون رغم الأذى الذي لاقاه منهم ، وعندما عرض عليه جبريل أن يطبق على أهل الطائف الأخشبين عندما رفضوا النبي ورجموه قال: “لا.. عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يقول لا إله إلا الله”!
إن صاحب المشروع يهمه أن ينجح المشروع ولو بعد حياته لأنه لا يسعى لمصالح مادية يريد أن ينجح في عهده وإلا ليذهب إلى الجحيم، لقد يأس البعض بعد فشل ثورة 1948م من الشعب الذي يقف مع جلاده لكن الزبيري يرد عليهم:
وآمنت بالشعب حتى وقد
رآه الورى جثة هامدة!
تداعى حواليه أعداؤه
ليقتسموه على المائدة!
فهذا بشلو شهيد يعيث
وذاك يساوم في الفائدة
وذا لليتامى يهز السياط
لتعبث بالجثث الراقدة
وكم من وليد حذار الحمام
رأى نفسه صافعا والده.
نعم لقد وقف الشعب مع جلاده ورفض حبل الخلاص الذي حاول الثوار أن يمدوه له، بل وسعى لقطعه، وقطع رقابهم أيضا، ومع ذلك يظل الزبيري على قناعاته التي لا تتزعزع بهذا الشعب!
وآمنت بالشعب يوم جثا
أمام الطغاة على ركبتيه.
ويوم انبرى في ذهول الهوان
يرمي مكاسبه من يديه.
ويوم مددنا شعاع الصباح
له، فانزوى وحمى مقلتيه!
ويوم عصرنا رقاب الطغاة
وسقناهم كالجواري إليه
فأطلقهم من هوان الأسار
ذئابا علينا ضلالا عليه!
وهكذا يصل إيمان الشهيد الزبيري بالشعب “إلى درجة قد يراها البعض لونا من الإشراك، وبخاصة ذلك النوع الجاهل من أدعياء الدين، الذين يتسقطون أخطاء الشعراء، ويتلمسون لهم المعايب في بيت من قصيدة أو في شطر من بيت “(1)، يقول الزبيري في تقديس الشعب وفي إكبار مكانته:
هو الشعب حق مشيئاته
صواب ورشد خطيئاته!
له نبضنا وأحاسيسنا
فما نحن إلا نباتاته!
له دمنا وله دمعنا
يغذى عليه ويقتاته!
ويقصف عمر الحمام الوديع
لتحيا وتكبر جيناته
وتقتلع الشر خبراته
وتبتلع الكل غاياته!
وهو موقف لا يصل إلى ذراه كل أدعياء الحداثة والديمقراطية ومناصري الشعب كما يزعمون!
الارتقاء بالشعب
لم يكن الزبيري يتملق الشعب أو يمدح سلبيته لكنه كان يعلم أن ظروفا صنعها الطغيان هي وراء تخاذل الشعب واستسلامه، وأن هذا الاستسلام لا يمكن أن يستمر فوراءه روح وتاريخ مختبئ في وجدان الشعب، ووعيه بحاجة إلى من يكشف عنه ويحفزه، ورغم كل المآسي التي لحقت باليمن ظل الزبيري على قناعته أن الشعب سيثور يوما ولن يبالي بطغاته مهما حاولوا أن يحيطوا أنفسهم بهالات القداسة، ذلك أن الرغبة في الثورة على الطغاة رغبة إنسانية وطموح بشري نحو العدل والحرية والمساواة، لهذا نجد الزبيري وفي ظلمة النكسات التي مني بها الثوار بعد فشل ثورة 1948م وانقلاب 1955م وموقف الشعب السلبي منهما يؤكد أن:
مرجل الشعب لا يبالي إذا ثار
بأقطابه ولا زعمائه
ومصير الشعوب كالحق لا يبنيه
بان بوهمه وادعائه
والملايين لا تعيش على الشك
ولا تستقر فوق هبائه
تتلقى شذى السماء فتهتاج
اهتياج الحريق في دهمائه
وتذيب القلوب من لهب الروح
وتمحو الشقا عن أشقيائه
فإذا بالسجون تهوي وبالسجان
يبغي الفكاك من سجانه
كل حق لنا سنأخذه قهرا
وتنبو عن سؤله واجترائه
سوف نبني شعبا طهورا ونسترخص
فيه أرواحنا لفدائه!
يعلق د. عبدالعزيز المقالح على هذه القصيدة مستذكرا كيف كانوا –وهم طلاب- يقرأونها قبل الثورة بسنوات فيقول “ما أقدر الزبيري على الاكتشاف والرؤيا بالإضافة إلى قدرته على تعظيم الشعب، لقد كنا قبل ربع قرن -ونحن على مقاعد الدرس- نقرأ هذه الأبيات عن مرجل الشعب الذي لا يبالي إذا ثار بالأقطاب أو الزعماء، وعن الملايين التي لا تستطيع أن تعيش على الشك والوهم، وعن السجون التي تهوي، وعن السجان الذي يبغي الفكاك من أيدي السجناء، ولم تمر سوى سنوات معدودة حتى رأينا السجون تهوي، ورأينا السجان يطلب الرحمة من المساجين، لقد أدرك الزبيري شأنه شأن الشعراء العظماء الملهمين أن الكلمة في النهاية للشعب، وأنه رغم المظاهر التي يحيط بها الطغيان نفسه يتمطى ليقتلع الطغيان من جذوره، ويرمي به إلى زبالة التاريخ”(2).
البقاء مع الشعب حتى النهاية.
لم يفقد الزبيري ثقته بالشعب أو يتخلى عنه حتى بعد قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م، فقد رفض أن يعود إلى كرسي الوزارة ويهنأ بالعيش في صنعاء موكلا مهمة القضاء على أعداء الثورة للجيش المصري. لقد رأى أن القبائل اليمنية التي لا تزال تحارب الجمهورية إنما هي واقعة تحت تأثير الدعاية الإمامية، وقد عز عليه أن يذهب الأئمة الذين ظلوا يحتقرون هذه القبائل، إلى مناطقها في الجبال ويعيشون معها ويمارسون عليها التضليل، في حين يقف الثوار الذين هم أقرب إلى هؤلاء في مكاتبهم، لهذا خرج إليهم بصدره العاري متأكداً” من أنهم -كزملائهم ممن وقف مع الثورة- سيقفون معها، وقد أدرك الأئمة خطره عليهم فأصابته طلقة غادرة منهم ليستشهد وهو في طريقه للالتحام بالشعب الذي ضحى وناضل واستشهد من أجله!
*الهوامش
(1) الدكتور عبدالعزيز المقالح “الزبيري ضمير اليمن الثقافي والوطني “طـ3 1986م، صـ 77 .
(2) المرجع السابق، صـ82.