فكر وثقافة

إنهم يقصلون الرؤوس… أليس كذلك؟

نبيل سليمان

في القصل يقال: قصل رأسك، أي قطعه، فهو قاصل ورأسك قصيل ومقصول. ويقال: اقتصل الرأسَ، أي قطعه، واقتصل الرأسُ، أي انقطع، وبما أن هذا لا يكون إلا بفعل فاعل/ قاصل، فالقول هو: اقتصل الشيءُ، لا الرأس. وفي تمام القول في القصل، يقال سيف قاصل، وقصّال، أي قطَّاع. ويقال: لسان مِقصل: أي لسان حديد، وختاماً: القصّال هو الأسد.

في اللغة:

قصلَ وجزَّ وقطع: كلمات مترادفة، لكن الأوْلى أقلها شيوعاً، ونداؤها القاموسي لقطع الرأس، أكبر، لذلك صرت أوثرها منذ أحيا داعش وأصناؤه من أصحاب الرايات السود ومن كل لون، المتأسلمة، في طريفهم، ما في تليدنا من قصل الرؤوس وجزّها. أما القطع، فيظل أهون قاموسياً، إذ يقال: قطع عنق الدابة، أي باعها، أو يقال: قطّع لسانه، أي ذهبت غلظته، وقطّع الخمرَ بالماء: مزجها.
في القصل يقال: قصل رأسك، أي قطعه، فهو قاصل ورأسك قصيل ومقصول. ويقال: اقتصل الرأسَ، أي قطعه، واقتصل الرأسُ، أي انقطع، وبما أن هذا لا يكون إلا بفعل فاعل/ قاصل، فالقول هو: اقتصل الشيءُ، لا الرأس. وفي تمام القول في القصل، يقال سيف قاصل، وقصّال، أي قطَّاع. ويقال: لسان مِقصل: أي لسان حديد، وختاماً: القصّال هو الأسد.
رأسك اليوم هو رأس القديس دنيس:
هي ذي رؤوسنا جميعاً في هذا الصندوق الجديد: الحاسوب، كما يشخص الفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشيل سار في كتاب (الإصبع الصغير) الذي ترجمه الصديق الناقد المغربي عبد الرحمن بوعلي.
يشبّهنا ميشيل سار بالأسقف القديس دنيس الذي قصل رأسه جندي فرنسي في منتصف الطريق، فحمل الأسقف رأسه المقصولة إلى أعلى التلة. ورؤوسنا نحن مقصولة إذن، ولكن لأن الزمان أكل عليها وشرب، وباتت كمعارفها قديمة، على النقيض من الرؤوس الجديدة التي يسعنا جميعاً أن نلعب بها ومعها، فهي رؤوس خاوية، ولا تحتاج إلى ما كان يملأ رؤوسنا حشواً وتلقيناً وحفظاً. إنها رؤوس لا تخشى الخواء، بل يسعدها أن تحلق فيه إعلاناً عن أفول عصر المعرفة، وعصر صانع القرار، والدخول في عصر التواصل والاتصال. وهذا ما تؤشر إليه، بل وما تعنيه الإصبع الصغيرة التي تحمل رأسها بين يديها، وتلمس أزرار الحاسوب، فينفتح، فتضع رأسها أمامها وترمح كيف تشاء وأنّى تشاء.
تراث القصل:
يقال إن رأس عمرو بن الحمق الخزاعي كان أول رأس تُقصل وتحمل في الإسلام من بلد إلى بلد. لكن الصيت الساطع هو لرأس الحسين بن علي. ولأنه تراث زاخر فسأكتفي بلُمَحٍ منه، كقول المتنبي في مديحه لسيف الدولة الحمداني: “كم كان في قطع أسباب الرقاب بها/ إلى المخدّرة العذراء من سبب/ تطير رؤوس القوم تحت ظلامها/ وتنقضّ فيها كالنجوم الثواقب”. فالقصل مدحة، وكما تعلمون، ما كان الحاكم في دولة المماليك يبايع على العرش إلا بعد أن يطلع على الجماهير برأس سلفه مقصولة، فتحل البيعة. ومن بطون التاريخ و(ألف ليلة وليلة) والسينما المصرية زمن الأبيض والأسود، يترجّع هدير الخليفة هارون الرشيد: “يا مسرور اقطعْ رأسه”. فالرشيد لم يكن يقول (اقصلْ). وسيّافه مسرور انتقل من بلاطه إلى بلاط شهريار، ليقصل رؤوس الجواري ليلة فليلة، إلى أن تنقذهن شهرزاد. وإذا كانت (ألف ليلة وليلة) قد أفسحت للرشيد ولمسرور، وللقصّال الشهير أيضاً: الحجاج، فربما كان على المرء أن يذكّر الاحتفالية اليسارية اليوم بابن تيمية، بأن مفردة ضرب العنق – القصل قد وردت في فتاويه تسعاً وثلاثين مرة، منها الفتوى التي تحكم على من اعتقد أن أحداً من أولياء الله يكون مع محمد، كما كان الخضر مع موسى، بأن يُستتاب، فإن تاب وإلا ضُربت عنقه. كذلك هي الفتوى بأن من لم يقل إن الله فوق سبع سمواته، هو “كافر به حلال الدم” يستتاب، فإن تاب وإلا ضُربتْ عنقه. وأخيراً: الفتوى بأن من ادعى أن له طريقاً يوصله إلى الله، إلى رضوان الله وكرامته وثوابه، غير الشريعة التي بعث الله بها رسوله، فإنه أيضاً كافر يستتاب، وإلا ضربت عنقه.
بالطبع، ليس تراث القصل عربياً إسلامياً وحسب. فمن أسف أنه تراث إنساني بامتياز، تتدافر فيه رؤوس الهنود الحمر، بالرؤوس التي أرسلها روسبيير إلى المقصلة التي أبدعتها الثورة الفرنسية، برؤوس المقاومين المغاربة التي وضعتها فرنسا على طابع بريدي، برؤوس الأطفال التي قدمتها قرطاج قرباناً للآلهة التي ألهب عطشها حر الدماء… وصولاً إلى تدمر حين قصل داعش بالأمس القريب رأس عالم الآثار العاشق التدمري الثمانيني خالد الأسعد. وللمستزيد هوذا كتاب فرانسيس لارسن الطازج: (قطع الرقاب: تاريخ سقوط الرؤوس والعثور عليها)، ولو أن الترجمة لي لقلت: (قصل الرقاب).
القصل المعاصر شعراً:
بين أوراقي ما احتفظت به منذ سنين، فيما لعله تحسّبٌ لما يجود به يومنا من القصل. ومن ذلك مما كتب صلاح نيازي: “هاقد نزعتْ كتف مثل ردن قديم، وفوق التراب رؤوس على القحف مقلوبة تنتظر القاتلين، شرايينها كالطماطم مسحوقة تتلزّج بالنعل”. ومما كتب أسامة إسبر في (الشاشة رقم 9) من ديوانه (شاشات التاريخ): “كان يترنح رجال قرأنا عنهم سيراً ومدائح، بشر قطعتْ رؤوسهم لأنهم ابتسموا”. وفيما هو طري من الأوراق، كتب أدونيس: “كل يوم يختار الموت رأساً مقطوعاً يعلقه / وساماً على صدره/ في احتفال كوني/ أعرف أن الأبجدية لم تنم البارحة، غضباً/ واحتجاجاً، أعرف أنها لن تنام هذه الليلة”. وكذلك: “المعجم دم. الأبجدية محيط. ولا سفن إلا / رؤوس مقطوعة (…) يقرأون تاريخاً لا رأس له. مجرد معدة/ وقدمين”.
القصل المعاصر روائياً:
ولأن غيري أولى مني بالحديث عن الشعر، أُسرع إلى الرواية، حيث لا يزال يترجّع في أعماقي الصدى الجارح لرواية يحيى يخلف (نجران تحت الصفر) منذ عام 1977.
ففي مشاهد صغيرة متكاملة ومتنامية في خط درامي خفي وهاج وسينمائي، ترسم الرواية إعدام (اليامي) الجمهوري إبان الصراع اليمني بين الملكيين والجمهوريين في مطلع ستينات القرن الماضي. وينفذ الإعدام بالسيف على إيقاع أغنية طلال مداح (يا سارية خبريني عما جرى)، وأمام عيون نجران الفقيرة الصامتة المأخوذة (حارة العبيد)، ونجران العليا. وإذ يهوي السيف على عنق اليامي، يصيب السيف أعلى الكتف، ويبدو اليامي “مثل ديك ذبحوا منه الوريد فهاجت حلاوة روحه، وانطلق يبحث عن عراء”، فتعجل الضربة الثانية للسيف كي تنجز ما فات سابقتها.
في عام 1984 صدر الجزء الأول من خماسية عبد الرحمن منيف (مدن الملح). وفي سنة 1985 صدر الجزء الثاني (الأخدود)، وفيه مشهدية مروعة أخرى لقصل رأسين بالسيف، في مدينة حرّان: رأس لرجل يبدو مثل حيوان صحراوي ضعيف، وشاب يبدو صدره كأنه قفص لطيور خطرة. وأمام عيون حران التي تتحلق حول المحكومين بالقصل، كالسوار، يهز السياف سيفه، ويُجلس المحكومين كما لو كانا يركعان وينويان السجود. وبينما يهتف الشاب: “والله لالعن أبو الأميركان وأبو اللي حط أول حجر بحرّان” يخز السياف الرجل في عجزه، فيشب جزعه وتمتد رقبته، ويهوي السيف، لكنه لم يقصل الرأس إلا بالضربة الثانية، حيث يطير الرأس ويتدحرج وينقلب، وترتجف اللحية والعينان، بينما يتحرك الجسد ويتلوى ويستطيل ويعلو ويهبط تماماً كما يذهب بعض الطب في موت المقصول. ويمسح السياف سيفه، وقد بدا شديد الخوف والاضطراب وهو يقصل رأس الشاب بضربة واحدة.
وما دمنا بين نجران وحرّان، فلنمض إلى رواية عبده خال (صدفة ليل – 2015) والتي جعلت مدارها الإرهاب في السعودية. ففي مطلعها ينزل السائق البيشي وابنه فايز في استراحة للمسافرين، سيتبين من إعداد جمهرة لحرقها أنها كانت تقدم لحم الحمير، لذلك صدر أمر ملكي بقطع رقاب العاملين في المقهى وصاحبها. وفي يوم الجمعة ينادي المنادي إلى مشاهدة تنفيذ القصاص في مجرمي مقهى الحمير أمام الجامع الكبير، فيتقدم فايز الصفوف، ويقرأ الضابط حيثيات الحكم، ثم يشرع السياف بالقصل من غير أن يشعر المعدوم، ويرفع السياف سيفه إلى الجمهرة التي تبادله التحية، وتصفق وتصفر، بينما يصف رجل وقور المصفقين بأنهم على غير هدى.
كانت الرؤوس المقصولة متفرقة، وغرة أحدهم قد جاورت رأس صاحب المقهى. وفي الجو الحارق ظهرت حدأتان، إحداهما انقضت على رأس المقصول الثاني، ناقرةً جذع رقبته ومحلقة في عين الشمس، حاملة قطعة مدماة، بينما تنقلت الحدأة الثانية بين بقع دم طازجة، وفايز يتوهم أنه صار سياف البلد. وحين يتوظف في إدارة السجون يريد أن يكون سيافاً. وقد صادف قبل تخرجه بأيام، إعدام جهيمان ورفاقه، فكان من نصيب فايز المتدرب أن قصل ثلاثة رؤوس.
يعكر عمل فايز ما يضيق به من كره لسليم الذي أقام سداً دون محبوبته. وبلغ الأمر بفايز الذي صار سياف مدينة جدة أن لم يعد أمام عينيه إلا رقبة سليم، حتى تحولت عملية القصل/ القصاص، مراراً، إلى قتل، جراء خذلان أعصابه. وبدأت الملاحظات تتراكم عليه، ما إن يتم نقل المقصوص/ المقصول إلى (الشرشورة) حيث تخضع الجثة لفحص الطبيب الشرعي. ومن الملاحظات أن السيف اجتز كتف مقصوص، وهشّم قحف جمجمة آخر، وأن السياف ضرب مقصوصاً أكثر من ضربة قبل أن تسقط رأسه، وآخر تلقى ضربة على حنجرته من الأعلى، بينما لم يصب السيف جذع رقبته، وثالث بقر بطنه قبل القصاص، ورابع مُثِّل به  بعد القصاص، وخامس قُطِعتْ رجله اليمنى… حتى طُلب من فايز أن يستقيل، لأنه ما عاد ينفذ أمر الله في الجناة، بل وساوس الشيطان الذي في رأسه، والقصاص، كما يشرح السارد، تنفيذ حكم، وليس تعذيباً ولا شهوة انتقام.
في فضاء آخر، يتعين جداً حين لا يتعيّن، ترسم رواية خيري الذهبي (فخّ الأسماء – 2003) مبارزة في قصل الرؤوس، ابتداءً بوصول رسل الجغتائي من الهند، وتقديمهم الهدية التي أشبهت رؤوساً مقصولة، سيتبين أنها (جوز الهند)، فينتشر في المدينة أن رؤوساً بشرية جيء بها إلى السلطان، لكن السحر حوّلها إلى رؤوس سُرِق عقلها ومخّها.
أمام الحشد يخترق حرفوشٌ الصفوف، وبغمضة عين كان رأسه قد انفصل عن جسده، وارتمى تحت أقدام السلطان وهو يصرخ: روحي فداؤك أيها السلطان، روحي وروح أبنائي فداء نعلك أيها السلطان، فيخاطب السلطان رسل الجغتائي: أيفعل هذا أحد عندكم؟ هؤلاء عبيدنا يقتلون أنفسهم في محبتنا. عندئذٍ يصرخ أحد الجغتائيين والمترجم يترجم: ليتصور الكوركان العظيم – وهذا من ألقاب الجغتائي – أن أمي لم تلد لعام واحد، وسقط الرأس عند قدمي السلطان.
استمرت المبارزة حتى امتلأت الساحة بجثث العوام محبي السلطان، وجثث الجغتائيين الذين لم يبق منهم غير الرسول، بينما لا يزال أمام السلطان كثير من الدهماء والعوام. وتم دفن الرؤوس في مقابر المسلمين بعيداً عن أبدانها، لكن القتلى عادوا أحياء، فتقرر حرق جثث الجغتائيين، لكنهم عادوا أحياء، وتوالت المبارزة شهراً حتى شارف رهط السلطان على الفناء، بينما يتجدد الجغتائيون، وكان يمكن للمدينة أن تنقرض لولا ظهور المماليك الثلاثة…
وهذه رواية أخرى ترمح فيها المخيلة أيضاً، ولكن ليس في بطن التاريخ، بل في الحاضر العراقي، وحيث يحمل السارد اسم الكاتب حازم كمال الدين في روايته (مياه متصحرة- 2015). وأول القصل في الرواية يتولاه الجد الأكبر لحازم حين يقصل رأس الطاووس، فيسقط بدنه مترافساً على الأرض. ولأن الجد يحمل رأساً مقطوعاً وسط ساحة القرية، تلقب الأسرة بـ (السفاح). وفي الرواية أن مخبراً يروي أن دوريته صارت تعثر في مزابل ساحة الأندلس في بغداد، على جثث بلا رأس، بعد منتصف الليل، وبعد خروج حازم من بار اتحاد الأدباء. فحازم – في رواية المخبر – صار من أتباع أبو مصعب الزرقاوي، وهو المسؤول عن الرؤوس المصفوفة في الساحة. ومما تجود به المخيلة (المرضية) أن رأساً يظهر من الشباك وسكين تقصله، فيسقط الرأس عند قدمي حازم. كذلك أن أمير البساتين يعتزم ذبح حازم، فيبلغ بذلك عدد الرؤوس التي قطعها خلال شهرين، مائة وعشرين رأساً، ما يؤهله إلى الترقية، فيصير أميراً للحي.
إلى روايات يحيى يخلف وعبد الرحمن منيف وعبده خال وخيري الذهبي وحازم كمال الدين، تذهب الإشارة إلى روايات علي المقري (بخور عدني) وإسماعيل يبرير (باردة كأنثى) وفواز حداد (جنود الله) وسواها كثير يومض فيها أو يحتدم قصل الرؤوس، ومنها روايتا (المسلة – 1980) التي تنادي خالداً بن عبد الله القسري إذ يذبح الجعد بن درهم بيده قائدَ جيش المرجئة في عيد الأضحى، وكذلك رواية (سمر الليالي – 2000) التي تنادي حديقة قصر المعتمد بن عماد، المزروعة بالرؤوس المقصولة، وأخيراً رواية (ليل العالم – 2016) التي تنادي مدينة الرقة والقصل الداعشي فيها بجزّ العنق من أعلى البلعوم، وهي الطريقة التي تنسب إلى الخوارج في القصل. وبالطبع ليست داعش وحدها من يقصل، وهكذا يندغم تليدنا بطريفنا، وإلا فلا.
نقلا عن المنبر العربي الثقافي “ضفة ثالثة “

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى